في الأيام الأخيرة من عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز وفي الأشهر الأولى من عهد ابنه الإمام عبدالله -رحمهما الله- أخذ الأخير يشن الغارات على مناطق القبائل الواقعة جنوب شرق منطقة المدينة المنورة، حيث تشتت ولاء تلك القبائل بين قوات محمد علي باشا التي سيطرت على المدينة المنورة وبين الحياد أو البقاء على الولاء للسعوديين الذين انحسرت سيطرتهم عن المنطقة وربما لم يعودوا قادرين على مساندة تلك القبائل ضد القوات الغازية مما جعل تلك القبائل تعيش حالة من القلق وتشتت الولاءات يقول عنها المؤرخ فائز البدراني: (بعد سقوط المدينة وانتشار القوات المصرية في المناطق المحيطة بها تشتت ولاء قبائل حرب، فالواقع يحتم عليهم أن لا يدخلوا مع القوات المصرية في مواجهة معروفة النتائج، بل إنهم لم يستطيعوا حتى مجرد إعلان ولائهم للسعوديين...)(1).
أما الإمام عبدالله بن سعود فإنه يرى في حياد تلك القبائل ارتداداً عن البيعة مما جعله يشن عليهم الغارات التأديبية، يقول المؤرخ عثمان بن بشر عن حوادث سنة 1229هـ (وفيها سار عبدالله بن سعود رحمه الله بجميع المسلمين من أهل نجد الحاضرة والبادية خرج من الدرعية أول السنة فاجتمع عليه جميع النواحي وقصد الحجاز وذلك قبيل وفاة أبيه سعود رحمه الله تعالى ومعه علي ابن الشيخ محمد -رحمه الله- فأغار على بوادي حرب وهم في الحرة قرب صفينة المعروفة في تلك الناحية...الخ) (1).
ويرصد أحد تقارير العساكر تلك التحركات ويذكر أن الإمام عبدالله مقيم في صفينة وأرسل إلى جميع القبائل أشخاصاً مخصوصين من قبله لإقناعهم في الانضمام إليه وأن العساكر تمكنوا من القبض على أحد هؤلاء الأشخاص المرسلين إلى قبيلة بني عمرو أهل وادي الفرع وأن ابن جبرين شيخ بني عبدالله من مطير قد انضم إلى جانب الإمام عبدالله (2).
وفي وثيقة نادرة ننشرها لأول مرة وهي عبارة عن رسالة من كبار قبيلة مَنَاش إلى كبار قبيلة جهم وكلا القبيلتين من بني عمرو من حرب أهل وادي الفرع يتحدث كاتب الرسالة عن بعض أخبار جيش الإمام عبدالله المُعسكِر في صفينة حيث يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، من كبار مناش إلى كبار جهم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،... من حال سعود لفى علينا ربع من أهل السويرقية يذكرون عن سعود وصل السويرقية وأخذ منهم خفرة مية حِمل حَب وعشرين جمل وسبعين بندق، ولا صار عليهم خلاف، وعن أهل صفينة صار بينهم وأهل السويرقية كون وحصل في أهل صفينة بين قتيل وصويب تسعطشر رجل، وسعود يوم وهو في السويرقية، ولنا سبر ملزمين أنهم ينيرونه(5) مقفي وإلا مقبل، وعن ابن كمي (6) ورد غراب وجوه (7) رديد (8) من قوم سعود حساب أهل مية وعشر معهم دبش الغيداني (9) وحجم عليهم ولا ظهر منهم أحد، هذا ما ثبت عندنا من العلوم والربع اللي جونا من السويرقية: عبدالله بن ....؟ بن عبدالله. واصلكم العلم من الراس، وعن بني عبدالله ابن جبرين طاح، والسورة، والدياحين، وابن غليفيص البدراني ومن معه. يصل الخط ليد كبار جهم) (10).
ويتضح من هذه الوثيقة ما يلي:
1- أنها كتبت قبيل وفاة الإمام سعود حيث يعتقد كاتب الوثيقة أنه هو قائد تلك القوات وليس ابنه الإمام عبدالله.
2- سيطرت قوات الإمام عبدالله بن سعود على السويرقية ودخول أهلها في الطاعة.
3- حدوث معركة بين أهل قرية السويرقية وأهل قرية صفينة سقط فيها تسعة عشر رجلاً بين قتيل وجريح ويبدو أن تلك المعركة بين أتباع ابن سعود وبعض قبائل المنطقة.
4- وجود سبر أي جواسيس لقبيلة مَنَاش يتابعون تحركات ذلك الجيش المعسكر في صفينة.
5- هجوم سرية من قوات الإمام عبدالله على الشيخ ابن كمي - من المواعزة من بني عمرو من حرب - ومن معه على مورد الماء المسمى غراب جنوب الحناكية وقد غنمت تلك السرية في طريقها بعض المواشي من الغيداني وهو من بني عمرو أيضاً لكن ابن كمي تصدى لها وبحسب تعبير كاتب الرسالة أنه لم ينج احد من افراد تلك السرية.
6- يؤكد مضمون الرسالة على ما ذكره التقرير العسكري عن انضمام ابن جبرين لقوات الإمام عبدالله، حيث يذكر أن من أخبار بني عبدالله: ابن جبرين طاح -أي بايع- وأصبح موالياً لابن سعود هو والسُّوَرَة -ومفردهم السور- والدياحين وهؤلاء من قبيلة مطير ويذكر أيضاً ابن غليفيص البدراني ومن معه وهو من بني عمرو من حرب.
وتعطينا وثيقة(11) أخرى صورة واضحة لاختلاف ولاءات شيوخ تلك القبائل وهي عبارة عن رسالة من الشيخ معتاد بن خضير الخضراني موجهة إلى الشيخ مبارك بن عيد العبيدي وهما من بني عمرو أهل وادي الفرع حيث يذكر ابن خضير ما مفاده أنهم بعد أن أصبحوا تحت ولاية الدولة التركية لم يعد لهم بد من محاربة القوات النجدية التي أخذت في مهاجمة قبائلهم ثم يحث الشيخ العبيدي على سرعة الانضمام لهم بقبائله وأهل قريته وكأن العبيدي قد فضل البقاء على الولاء لابن سعود او على الأقل فضل الحياد مما جعل ابن خضير يحذره من هذا الموقف ومن البقاء على تبعية من لم يعد قادرًا على نجدته في ظل تلك الظروف التي تسيطر فيها قوات العساكر على المنطقة.
ويتضح من مضمون وثائق الأهالي هذه أن الوثائق المحلية رافد مهم من روافد تاريخنا المحلي، ومع ذلك لا يزال الكثير منها لم ينشر ولم يحقق ولم يدرس، ولم يجد الاهتمام الكافي به سوى بعض الجهود المباركة لبعض الباحثين الذين جمعوا أعدادا لا بأس بها من تلك الوثائق ونشروا بعضها في مؤلفات يسرت للقارئ التعرف على أهمية وفائدة وثائقنا المحلية.
1- فصول من تاريخ قبيلة حرب في الحجاز ونجد، للدكتور فائز البدراني، ط3، ص364
2- عنوان المجد في تاريخ نجد، للمؤرخ: عثمان بن بشر، حوادث السنة المذكورة.
3- من وثائق شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث، للمؤرخ: عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم، المجلد الثاني، ص 165
4 ـ الخفرة: من الخفارة، وهي أخذ الأموال نكالا
5- ينيرونه أي: يميزون تحركاته بدقة.
6- الشيخ المعاصر لتلك الحوادث من آل كمي هو مرزوق بن كمي ورد اسمه في عددٍ من الوثائق بين سنتي 1217هـ و 1240هـ.
7- أي: جاءه.
8- رديد، يقصد بها: سرية ربما كانت عائدة من معسكر تلك القوات وفي طريقها هاجمت ابن كمي.
9- في الأصل: القيداني والصحيح الغيداني لكنهم يقلبون الغين قافاً حسب لهجتهم المحلية ومثلها غليفيص في آخر الوثيقة.
01- وثيقة غير مؤرخة من وثائق أهالي وادي الفرع زودني بها -مشكوراً- الأستاذ/ علي بن عُتيِّق العمري.
11- وثيقة غير مؤرخة من وثائق أهالي وادي الفرع.
** **
- محمد بن سعود البيضاني الحربي