د. إبراهيم بن محمد الشتوي
«الصحافة نشأت في أحضان الأدب». هذه مقولة لا يمكن الشك بها، وذلك على أكثر من مستوى، إلا أنني لن أفيض في الحديث عن هذه الجملة، وتفصيلها وإيراد الإثباتات عليها حتى لا تتحول المقالة إلى نوع من التاريخ للصحافة، إنما أريد أن أتحدث عن «الملاحق الأدبية» التي ظهرت بعد تطور فن الصحافة وتنوع الموضوعات التي يتناولها، وكان هدفها أن تعطي الأدب والثقافة المساحة والأهمية التي تستحقها بوصفهما هما المادة التي نشأت منها.
لكن إعداد ملحق أدبي أو ثقافي أسبوعي، يجمع عدداً من الكتاب الذين يقدمون مادة أدبية علمية صالحة للنشر في صحيفة سيارة على مر الأيام ليس أمراً سهلاً كما يبدو للوهلة الأولى، فالمادة الأدبية العلمية في تطور مستمر، والقراء كذلك، وما يشغل بال المثقفين والأدباء، ويجتذبهم ليس مجرد معلومات قديمة يجترها الكاتب من أحد بطون الكتب، أو بيت شعر يستدعى من شاعر قديم، وإنما هو انعكاس للأحداث المعاصرة التي يعيشها الأدباء. أليس الأديب مرآة عصره؟
كل هذا يجعل الكتابة في ملحق أسبوعي صحفي أمراً ليس باليسير، وهو ما يجعل المسئولين عن النشر في حالة من التحفز والقلق خشية العثار في مزالق طريق التزام إصدار ملحق ثقافي.
وإذا تجاوزنا مسألة الكتابة إلى مسألة القراءة أو ما اعتدنا على تسميته بـ»الجمهور» وأحياناً يسمونهم «المتلقين»، وجدنا أنفسنا أمام معضلة أخرى، فالثقافة والأدب على وجه الخصوص نخبوي بطبعه، وهو ما يجعل قراءه و»مستهلكيه» يتحددون في فئة معينة من الناس يتصفون، على أقل تقدير، بقلة العدد، وهو ما يؤسس تحدياً آخر تواجهه الملاحق الثقافية، يقوم على عدم القدرة على الموازنة بين تكاليف النشر والإعداد والمردود المادي الذي لا يغطي عشر هذه التكاليف بله أن تفيض بريع مفيد على الصحيفة والقائمين عليها، وهو ما يعني أن الصحف المستضيفة لهذه الملاحق لن تجد أمامها ما تكافئ به العاملين في هذه الملاحق والكتاب إلا «كروة أهل سدير» على أحسن تقدير، وهي «الكروة» التي لا تلقى قبولاً لدى أحد، ولا تمثل حافزاً ذا بال لدى الكتاب والمبدعين، الأمر الذي يجعل هؤلاء القائمين على الملاحق الثقافية في حرج مع أنفسهم ومع من يتعاون معهم من الكتاب والشعراء الذين لا يجدون ما يكافئونهم به، ويفزعون إلى توليفة نظرية أخرى يحتالون بها عليهم كخدمة الوطن، أو المشاركة في المسئولية الثقافية، أو تعزيز الثقافة السعودية والمساهمة في نشر الوعي بين الناشئة، أو نحو ذلك.
وهي أهداف مشروعة وصحيحة، لكنها لا تلغي حق هؤلاء الكتاب في الحصول على مقابل جهدهم وعملهم، وعلمهم أيضاً الذي أدركوه بالجد والاجتهاد وإنفاق بياض النهار وسواد الليل بالمطالعة والنظر، والتأمل. الأمر الذي يزيد من التحدي الملقى على عاتق القائمين على الصفحات الأدبية والثقافية، ويجعل المواءمة بين هذه المعطيات المختلفة العقبة الكأداء.
وحين نجد صحيفة أو مجلة قد تمكنت من توليفة تحل بها هذه المعضلات، فشقت عباب هذه الصعوبات، وصمدت أمام هذه التحديات حتى بلغت عشرين عاماً لا بد أن نقدم لها التحايا والتقدير، ونمنحها الوقت الذي نستطلع فيه خبر هذه التجربة، ونعرف السر الذي مكنها من هذا النجاح في ظل تراكم الصعوبات، وتتالي التحديات.
ومن وجهة نظري أن هذه التوليفة تتكون من جانبين: الأول متصل بالمشرف على (الثقافية) وهو الدكتور إبراهيم التركي حين يتعامل مع الكتاب التعامل القائم على الاحترام والتقدير، والسهولة في قبول الأعمال ونشرها، واستكتاب الكتاب، فالدكتور -كما أفهم- ينطلق من معاناة الكتاب الشباب التي تقوم على أن من حق المثقفين السعوديين وشداة الأدب أن يكتبوا وأن يجدوا مساحة تسمح بنشر هذه الكتابة، حتى ولو كانوا في بدايتهم، لم ترسخ أقدامهم فيها، ما جعل الكتاب أو الأدباء يجدون في المجلة الثقافية حضناً دافئاً لهم لا يضطرهم إلى الاستجداء ولا إلى التلون أو تكلف الصداقات والعلاقات الزائفة، وإزجاء المديح الممجوج لنشر أعمالهم، أو التقرب إليه بالنوافل كما هو حال بعض القائمين على المؤسسات الثقافية الذين يجدون في مواقعهم تلك مناصب ينبغي أن يجنوا منها مكاسب مادية واجتماعية تلحقهم بالرفيق الأعلى.
هذا التعامل من لدن الدكتور إبراهيم التركي جعل الكتاب يشعرون بالامتنان له، ويعدون صلتهم بالثقافية تشبه صلة الرجل ببيته لا يهمه ما ينفق فيه من جهد أو مال بوصفه جزءاً منه ودالاً عليه، ويرون في نجاح الثقافية نجاحاً لهم، فهي لم تكلفهم عناء النشر بها فلا ينبغي أن يكلفوها هم أيضاً عناء الحصول على المادة الثقافية والأدبية، وكأنها تبادل احترام وتناصر على التعفف الذي يغني الطرفين عن ذل السؤال، لا على طريقة «ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً» وإنما قدرني صغيراً فسأجله كبيراً.
الجانب الثاني ما يمكن أن أصفه بـ»المراهنة على المحلي»، فالدكتور إبراهيم حين بدأ بإصدار (الثقافية) لم يبحث عن الأسماء الكبيرة اللامعة في أرجاء الوطن العربي أو حتى في الأدب المحلي، وإنما طفق يؤسس الثقافية بالأسماء المتوافرة الذين لا يمانعون أن يقدموا أعمالهم دون ضجيج أو إثارة من الأكاديميين المحنكين أو الكتاب الذين بنوا أسماءهم بطول عراك مع الكتابة وبلوا مشاكلها، ما انعكس على الثقافية نفسها حين أصبحت تقدم مادتها دون إثارة أو ضجيج، ودون أن تقع في أتون التقاطبات، وتجذب الانتباه بفعل التجاذبات، فسارت في تطورها سيراً وئيداً، وجذبت في سيرتها تلك متلقين يبحثون عن الصريح من النقد والعلم، والمعرفة الميسرة لأسماء يجدون لها في آذانهم وقعاً لذيذاً لأنها تشبه أسماءهم، ما مكن هذه الأسماء أن تزداد أصالة وعمقاً في وعي المتلقي، وفي الساحة النقدية والعلمية، وبهذا تجذرت الثقافية في وجدان المثقفين والأدباء والعلماء -أيضاً- السعوديين سواء كانوا كتاباً أو متلقين، وبهذا حققت النجاح الصعب من خلال الإيمان بالإمكانات المحلية والمراهنة عليها، ومنها بلغت الإقليمية وربما أبعد، أليس يقال: إن المحلية هي الطريق إلى العالمية؟!