يجري على الأحكام المعلّبة من الفساد مثل ما يصيب المعلّبات الغذائية إذا أُسيء حفظها، أو طال تخزينها في مكان غير ملائم، أو تأخر عرضها عن زمنها. وتشابه الآراء المعلّبة في الثقل والغثاثة الألفاظ المعلّبة المكررة، والأمثال التي تُسحب على شوك لتوافق واقعًا أو حالًا ليس بينهما ترابط معقول مما يصيرها ممجوجة مستكرهة. ومع الأسف ففتنة «التعليب» هذه بلاء تسلّل إلى الحياة الثقافية والفكرية، ولربما أنه في مدخله كان لطيفًا أو محبوبًا فلم نشعر به، وتجاوز في انثياله الانسيابي المساحات المقبولة إلى درجة من الرسوخ القطعي الذي لا يُسلّم لصاحبه.
من ذلك مثلًا اتهام العصر والجيل بالبعد التام عن القراءة، والانصراف عن العمل الفكري الجاد، والجري خلف التقنية ومفاتنها المسموعة والمصورة وألعابها ووسائلها، وما إلى ذلك من أحكام تعميمية هي في أصلها صحيحة، وفي قتامتها مبالغ فيها وأقرب إلى الرأي المعلّب منها إلى الحكم الموضوعي أو العلمي، ولعلّ معارض الكتاب، والمكتبات، وسوق النشر، والنقاشات الثقافية، أن تكون دليلًا على أهمية تخفيف ذلكم القول دون نفيه تمامًا؛ لأن فيه قدرًا من الصواب الذي يقتضي التعاطي الإيجابي معه.
ومما يزيد في التأكيد على أن الحياة بل والحيوية باقية في مشهدنا الثقافي، هو استمرار صدور «الجزيرة الثقافية» لمدة عقدين متتابعين من الزمن، ففيها من يقرأ ويراجع ويعقب، وفيها من يكتب ويتألق ويُبهر، والقراءة والكتابة أمران لا مناص لهما من التفكير وحرث الذهن وكدّ العقل، وفي التفكير الذي هذه صفته جدية بالغة، وانقطاع لدرجة العكوف العميق، والبعد عن لوازم العيش وضروراته بله الملهيات، وإن أناسًا يصنعون ذلك وهم في محيط من الصوارف - الجميلة أو المنغصة- ليرسمون علامة إيجابية تبدد السلبية المتشائمة.
فهنيئًا لـ»الجزيرة الثقافية» موقف الشاهد العدل، وهذا الموضع البارز المشهود. وإنه لمن التميز المنفرد أن تكون «الثقافية» التي انطلقت مع عدة أخوات لها هي الوحيدة الباقية الصامدة، فلم تتوارَ أو تتراجع، وواصلت مسيرتها بما فيها من علم وفكر وتاريخ، واتسعت خريطة الكتابة فيها لتشمل مَنْ تجمعهم «الثقافية» دون تمييز مكاني أو زماني أو فئوي، وتوالت ملفاتها لتخبر القراء عن مثقفين من بلادنا، وتستجلي مواردهم الفكرية، وتظهر مكامن نبوغهم. وهي ملفات تجاوز عددها المئتين، وصدرت في عشر مجلدات ستة منها شملت عددًا من الأدباء والكتّاب والمفكرين، واختصت الأربعة الأخرى بالشيخ جميل الحجيلان، والأديب عبدالله بن خميس، والدكتور غازي القصيبي، والأمير خالد الفيصل.
لقد كان ذلكم اللقاء الثنائي لقاء مثمرًا، اجتمع فيه رمز صحفي وإعلامي، مع قامة ثقافية وفكرية، وبعد حديث وحوار بين الأستاذ خالد بن حمد المالك والدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، انبثقت الجزيرة الثقافية مثل كوكب دري ينير ما حوله وما يبلغه مداه، وصارت مثل كتاب ثمين مجاني يمنح لمتابعيه كل أسبوع، ولم تتوقف حتى لو لم يبق من فريقها خلال عشرين عامًا سوى الدكتور التركي، ولذلك فلن ينسَ جمهور الثقافية العريض يوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة عام (1423) الموافق لليوم الثالث من شهر مارس عام (2003م)، فقد كان يومًا مباركًا منتجًا، وفيه للثقافة وأهلها ربيع وأيّ ربيع؛ إذ بدأ معه تجديد الثقة بعالم الثقافة، ونفي التعليب الظالم عن المجتمع الثقافي.
** **
- أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف
@ahmalassaf