محمد سليمان العنقري
جل الأحداث والسيناريوهات السلبية حدثت مع جائحة كورونا وسجلت سوابق في بعض القطاعات مثل انخفاض أسعار خام نايمكس ليصبح بالسالب أي مالك الكمية عليه أن يدفع لمن يقبل بشرائها لعدم وجود خزن كافٍ، أما خام برنت ففقد نحو 80 في المائة من سعر البرميل في ذات الفترة من العام الماضي 2020 م التي كانت ما بين نهاية مارس وأبريل، حيث بدأ الإقفال الكبير في كل دول العالم وتوقفت العديد من القطاعات الاقتصادية عن العمل، مما هبط باستهلاك النفط بأكثر من 30 في المائة وعادت الأسعار للارتفاع بعد الاتفاق التاريخي لما بات يعرف باسم «أوبك +» الذي يضم 23 دولة منتجة للنفط، 13 منها أعضاء في منظمة أوبك، حيث دعت السعودية لهذا الاتفاق الذي أنقذ صناعة النفط والاقتصاد العالمي، نظراً لمساهمة استثمارات قطاع النفط بنمو الاقتصاد العالمي وأيضاً أسهم بحماية القطاعات التي تخدم شركات النفط من الممولين والمقاولين.
لكننا اليوم نعيش مرحلة مختلفة نسبياً، حيث عاد النمو الاقتصادي في العالم لمستويات قريبة بفترة ما قبل الجائحة وما زال هذا الاتفاق صامداً وجميع أعضائه ملتزمون به لقناعتهم بفائدته التي لمسوها، فأسعار النفط حالياً في بحر 83 دولاراً للبرميل ولامس مستوى 86 دولاراً ويبلغ الطلب العالمي اليوم نحو 96 مليون برميل والإنتاج العالمي يلبي الطلب دون أي نقص في أي دولة وقد بدأت «أوبك +» خطتها لزيادة الإنتاج تدريجياً بمعدل 400 ألف برميل يومياً ويتم رفعها في كل شهر مع رقابة صارمة للأسواق للتعامل مع أي ظرف فيها، فالحذر ما زال قائماً لأن جائحة كورونا لم تنته وإلى تاريخنا الحالي لم تخفض منظمة الصحة العالمية تصنيفها المرتفع والخطر لها، فقد قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان «المنتجون قلقون من حدوث انتكاسات في المعركة الدائرة ضد كورونا» وحقيقة بدأت الإصابات تزداد في أوروبا وروسيا ودول آسيوية من بينها الصين مما أدى إلى تعطيل بعض الأنشطة والقيام بإقفالات جزئية، أما وزير الطاقة الإماراتي فيقول: نتوقع فائضاً في أسواق النفط في الربع الأول من العام المقبل ويقول نائب رئيس الوزراء الروسي لا يزال الطلب على النفط يتعرض لضغوط من سلالة دلتا، فهذه التصريحات من كبار المنتجين تدل على قراءة مستقبلية واقعية للسوق تراعي ظروف المنتجين والمستهلكين وتدعم نمو الاقتصاد العالمي.
وفي المقابل نجد كبار المستهلكين مثل اليابان والهند والصين وعلى رأسها أمريكا أكبر منتج ومستهلك للنفط في العالم تطلب من «أوبك +» ضخ المزيد من النفط بسبب أزمة الطاقة العالمية المتمثلة في نقص إنتاج الكهرباء نتيجة تراجع إنتاج الفحم وأيضا أضرار لحقت بإمدادات الغاز اللذين يمثلان العنصرين الأكثر استخداما لإنتاج الكهرباء وبسبب ارتفاع أسعار الغاز زاد الطلب على النفط بتقدير يقارب 500 ألف برميل يومياً لكن زيادة «أوبك +» الشهرية حالياً تعد كافية لتلبية الطلب المتزايد كبديل للغاز، نظراً لرخص تكلفته قياساً بالغاز الذي تضاعف سعره عدة مرات خلال الفترة الماضية، إضافة لارتفاع أسعار البنزين في أمريكا حيث يطالب الرئيس الأمريكي بايدن بزيادة إنتاج النفط من دول أوبك وشركائها دون النظر إلى أن جوهر الأزمة وفق ما تذكره التقارير والمعلومات الأمريكية والعالمية بأنها مشكلة بأسعار المشتقات وهذه تعد سوقاً مختلفة عن سوق النفط الخام، فالمشكلة في ضرورة زيادة التكرير في أمريكا من المصافي التي بدورها لا تستطيع نتيجة التزامها بأنظمة بيئية صارمة، إضافة للضرائب المرتفعة على المشتقات، فلماذا لا يتم تعطيل بعض الأنظمة البيئية لفترة مؤقتة لزيادة التكرير وخفض الضرائب لتتراجع الأسعار على المستهلك، فهم يريدون أن يأتي الحل على حساب المنتجين وبما أن أسعار البنزين تحدد لظروف الطلب عليه فإنه لن ينخفض إذا كان الإنتاج محدداً بقوانين صارمة وبذلك سيستفيد ملاك المصافي من انخفاض سعر الخام عليهم، بينما ليس شرطاً أن ينخفض سعر البنزين ولعل أهم دليل على عدم وجود أزمة نفط خام هو ارتفاع مخزونات النفط في أمريكا بنحو 20 مليون برميل في الشهر الماضي فإذاً هي ليست أزمة نفط خام ومعالجة أسعار البنزين هي بمسار مختلف ولذلك ينظر بعض المحلليين والمعلقين الأمريكيين لتصريحات الرئيس بايدن وبعض أعضاء حكومته بأنها غير منسجمة مع جوهر المشكلة التي تعد داخلية بامتياز ولا علاقة لسعر برميل النفط الخام بها فما ينظرون له هو محاولات علاجية ذات نفس قصير دون النظر لهيكلية الأسواق ومكمن الخلل فيها مثل نقص الاستثمارات لزيادة إنتاج النفط ومشتقاته وأيضا للمضاربات على السلع التي تقاد من أسواق الطاقة لديهم ومن مؤسسات مالية غربية عملاقة.
أهل مكة أدرى بشعابها وكذلك حال منتجي النفط فهم الأقرب للأسواق وللصناعة وتحدياتها ومستقبلها ويحرصون على تلبية الطلب لأن في ذلك مصلحة مشتركة بينهم وبين المستهلكين فهم ضخوا تريليونات من الدولارات في سبيل تطوير الحقول والاكتشافات وزيادة الإنتاج وتأسيس البنية التحتية وتأهيل الموارد البشرية ليبيعوا هذه السلعة وليحافظوا على الاستقرار في الأسواق ليتمكنوا من زيادة الاستثمارات في إنتاج النفط مستقبلاً لتلبية نمو الطلب السنوي، بينما غالبية المستهلكين لا يراعون سوى الأسعار والرغبة ببقائها منخفضة لتعظيم مكاسبهم من ثروة ناضبة في خفض تكاليف الإنتاج والنقل والخدمات لديهم مع بعض المكاسب على الصعيد الداخلي لأسباب سياسية متعلقة بالانتخابات والوعود للناخبين بدعمهم اقتصادياً ببرامج من بينها دعم قدرتهم الاستهلاكية، بينما لا يراعون كثيراً احتياجات منتجي النفط التنموية والدور الكبير لعائداته بالتنمية المستدامة في دولهم وأيضا لإنفاق المزيد من الاستثمارات لزيادة الاكتشافات والإنتاج فالعالم مهدد بارتفاعات كبيرة في أسعار النفط في الأعوام القليلة المقبلة إذا لم تزدد الاستثمارات في القطاع وسيصبح سعر المائة دولار رخيصاً إذا لم يتم التشجيع على الاستثمار بهذا النوع الحيوي والرئيس من الطاقة.