عبدالوهاب الفايز
شكرًا لمن قدر وتفاعل مع الهدف الوطني بعيد المدى للمشروع الإعلامي الخيري الذي يتبنى نموذج الاستثمار الاجتماعي والذي اقترحناه الأسبوع الماضي، فالهدف هو (مأسسة) الوعي الشعبي الوطني ليكون عملا مؤسسيا مستداما محترفا، فالمخاطر المهددة لأمننا الوطني لا يمكن التعامل معها بطريقة إدارة الأزمة، فالتحول الهيكلي في طبيعة إدارة الصراعات والمصالح في العالم أخذ منحاه الخطير بعد دخول وسائل التواصل الاجتماعي ساحة الصراع والتغيير للأفكار والسلوك والانحيازات والاتجاهات، فهذه هي أدوات حروب الجيل الخامس، وهي التطبيق العملي لـ(كسب الحرب بدون قتال)، كما وضعها القائد الصيني الاستراتيجي صن تزو في (فن الحرب)، وهذه مفارقة جميلة.. البشرية في عصر الذكاء الصناعي تتعلم من تجربة تعود للقرن السادس قبل الميلاد!
لقد قلنا إن سرعة المبادرة الشعبية التي نراها من الناس للدفاع عن بلادنا ووجودها بجهدهم الخاص هو استشعار راق للمسؤولية، وهو صوت صادق مسموع، ولكن هذا الصوت يحتاج من يدعمه ويعينه بالذخيرة الحية، أي (المحتوى من المعلومات والأفكار، والتحليل السريع للمشهد وللاعبين فيه)، ويتأكد من تواصل خطوط الإمداد، ومن كفاءة التوجيه والإرشاد.
وهذا تقريبًا الذي سوف تسهم فيه المبادرة إلى (شركة إعلاميه خيريه وطنيه) تجمع تحتها العدد الأكبر للإعلاميين السعوديين، من مختلف الأعمار، وممن تربوا في مسيرتهم الإعلامية على الوسطية والاعتدال. هذا الكيان، سيكون (قاطرة الإعلام المحلي والخارجي)، كما تفعل الـ(بي بي سي) منذ إطلاقها قبل مئة عام، فهي الجهاز الإعلامي الذي خدم مصالح الامبراطورية البريطانية المحلية والخارجية بكل كفاءة وذكاء وخبث ومكر، وهي من اختراع فن الكذب!
لماذا نحتاج هذا الكيان؟
نحتاجه ليكون (المظلة الإعلامية) الوطنية، والمظلة يقصد بها وجود المنصات والقنوات والوسائل الإعلامية والتربوية والترفيهية والإخبارية التي تتولي ضخ أكبر قدر ممكن من المحتوى الإعلامي والمعلومات إلى القاعدة العريضة من الناس بحيث تكون مصدر تدفق المعلومات الرئيس في الدولة. وهذا تقريبا الذي فعلته سنغافورة قبل عشرين عاما، وتفعله الصين حاليا.
الحكومة الصينية، قبل فضيحة الفيس بوك، اتخذت قرارات حاسمة لاحتواء التواصل الاجتماعي بالذات الموجه للأطفال. وحولت الشركات الرقمية العاملة في تعليم وتربية الأطفال إلى شركات نفع عام. موقف الحكومة الصينية من هذه الشركات ومن التواصل الاجتماعي هاجمته المؤسسات الإعلامية الغربية الليبرالية ورأت انه اعتداء على حقوق الإنسان. طبعا الحكومة الصينية لم تلتفت إلى ذلك، لأنها تسعى لحماية جبهتها الداخلية عبر آلية للرقابة على الإنترنت والتي تعد الأكثر تطورا العالم وتسميها (الجدار الناري العظيم). والرئيس الصيني شي جين بينغ شن هجوما على قطاع صناعة التكنولوجيا في بلاده الذي يبلغ حجمه? تريليونات دولار متهما قادته بـ (الاتجاه إلى الممارسات الاحتكارية).
الذراع الإعلامي الوطني الذي نتطلع إليه سيسهم في حماية مجتمعنا من مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي التي ستكون الأداة الفعالة في حروب التصورات والأفكار للفوز بالقلوب والعقول. وهي سلاح جديد فعال في يد كل المؤسسات العملاقة للفكر والثقافة والسياسة والتجارة والمال والسلاح والنفط والأدوية وأخويات المجتمع المدني!
خليط المصالح هذا، سواء في الشرق والغرب، يحتاج أدوات الحرب وإدارة الصراع، وفضيحة (فيس بوك) أكدت خطورة الأدوات والآليات المستخدمة في هذه الأذرع المعلوماتية المصممة لاختراق الوجدان البشري. ومخاطرها على تعليم وتربية الأجيال الجديدة هو الذي يستنهض القوى السياسية الشعبية في حراك يصفه (ديفد بروك)، احد علماء الاجتماع السياسي الأمريكي في مقاله الأخير في النيويورك تايمز بـ(حركة مقاومة) تتجمع وتقوى الآن بعد فوز المرشح الجمهوري في منصب حاكم ولاية فرجينيا الأسبوع الماضي الذي ركز في برنامجه الانتخابي على ضرورة أن يكون للأسرة دور في الفصل الدراسي. يرى بروكس أن هذا الفوز هو نتيجة مباشرة للحرب الثقافية التي قادها الحزب الديمقراطي كممثل للنخب الفكرية والأقليات. يقول:(عندما يضخم الديمقراطيين سيطرة المؤسسة التعليمية على الفصل ويقللوا من دور الوالدين، سيكون هناك رد فعل. بعض ردود الفعل هي عنصرية بحتة، لكن الكثير منها هو رد فعل ضد هيمنة النخبة والإيديولوجية الضمنية).
ويعتقد أن اتجاه النخبة الثقافية الليبرالية وتطرفها في فرض أجندتها تغذي بقوة حركات المقاومة للنخبة الثقافية في دول عديدة، وربما توجد الدافع لعودة قوية لحركة ترمب داخل أنصار الحزب الجمهوري. بل تطرف الأفكار الليبرالية التقدمية تجد المقاومة داخل الأحزاب اليمنية الأوروبية، ورأينا البرلمان الايطالي يصوت ضد حقوق المثليين، والأفكار الليبرالية تتطرف في أفكار المساواة واسواء، وهذه الحركة الليبرالية لها رموزها التي تتحرك حول العالم وتقدم على أنها رموز المرحلة.
كما ذقنا الألم من حركات الإسلام السياسي وعملائها.. الحركة الليبرالية العالمية التي تقوم على (تقديس الفرد) خطيرة على قيم الأسرة والمجتمع وهي تستهدف تفكيك هذا النسيج، ولها مؤسساتها العالمية المندسة تحت مظلة جمعيات المجتمع المدني العالمي وتحرك عناصرها الموالية فكريا داخل بنية المؤسسات الفكرية والثقافية والإعلامية. وفي عصر الفردية والمزامنة للتواصل، تحتاج الدول أدواتها الإعلامية التي تنبع من صميم قيمها الخاصة وموروث وتاريخ الدولة والمجتمع، والأهم ضرورة الاعتماد على الكوادر الوطنية فهي القادرة على الدفاع عن مصالح بلادها ضد الهجمات الإعلامية. خوفا على بلادنا، نتطلع إلى هذا الكيان الوطني.. وللحديث بقية.