د. تنيضب الفايدي
يتعرَّض الإنسان في الدنيا لأمور كثيرة، قد تتعارض مع إراداته ورغباته وانتماءاته، فإما أن يصبر ويتصبر فيكون له الغنى والسعادة، وإما أن يجزع ويشكو فلا يكون إلا الفقر والتعاسة المادية والمعنوية ولو كان معه الدنيا كلها. وقد نبهنا على ذلك قوله سبحانه وتعالى: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ سورة التوبة الآية (51). فكله بيده وحده، ولن تستطيع أن تغيِّر أنت في كون خالقك، فاقبل حياتك على ما هي عليه، فربك {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. وروى ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط».
ويقول وليم جيمس وهو أحد الفلاسفة الكبار: «استعد دوماً لتقبل الأمر الواقع الذي ليس منه بد, لأنك بهذا تكون قد خطوت أول خطوه في التغلب على مرارته وصعوبته». إن الذي يمنحنا السعادة ليس هو الظروف بحد ذاتها, ولا متى تستطيع أن تأخذها منا, وإنما كيفية تكيفنا مع هذه الظروف التي هي تحدد مصيرنا.
إن في مقدورنا جميعاً أن نصرف عنا تلك المآسي والكوارث وأن نحطمها ونقضي عليها لماذا لا توجد في داخلنا قوة داخلية وعزيمة صادقة. وهي كفيلة بأن تنصرنا على هذه المآسي وعلى هذه الكوارث.
ويذكر دايل قصة لهذه القاعدة، حيث يقول: «كان يوت نار كينجتون يقول دائماً: إن في مقدوري أن أتحمّل جميع نتائج المصائب الحياتية، إلا تحمل شيء واحد ألا وهو العمى، وفي يوم من الأيام وكان عمره حينذاك قد بلغ الستين، كان يتأمل في السجادة التي فرشت على أرض غرفته، شاهد مزيناتها الملونة وزخرفتها يختلط بعضها في بعض، فلا يستطيع أن يرى منها شيئاً. فذهب من توه إلى طبيب للعيون يخبره عمَّا حصل معه، ففحصه الطبيب هذا وأخبره بأن عينه فقدت البصر والثانية في طريقها إليه، بهذا يكون المسكين قد عانى ما كان يخافه ويهابه، وبالتالي لا يقوى على احتماله.لكن انظر كيف استقبل صاحبه تلك المصيبة، هل شعر بقرب أجله، هل يئس من الحياة التي تعود مغالبتها؟ أنه لفرط مفاجأته بها أحس بالسرور، عظيم السرور، بل اتخذ فاجعته، هذه أداة للدعاية والتسلية.
إن الإنسان طالما كان له قدرة على التحرك، فإن قدرته على الكفاح موجودة، والإنسان لا يصرع الإنسان مهما كانت قوته، لكن قوة الطبيعة مهما كانت جبارة فإن قوى الإنسان تتضافر للتغلب عليها. إن هذه الفكرة قد استقبل صاحبها الحياة وخاطب بني الإنسان بقوله: لقد رأيت بعد تجربتي هذه أن باستطاعته تقبل العمى، كما يتقبل أية فاجعة تعترضه. وحتى لو أنني فقدت حواسي الخمس كلها، فبمقدوري بعد هذا أن أواصل الحياة بعقلي، فالإنسان إنما يعيش أولاً بعقله وثانياً بحواسه.
ويوت هذا الذي تحمل مصيبته بفقدان بصره، بكل رباطة جأش وقوة احتمال، قد أجرى اثنتي عشرة عملية جراحية لعينيه إيماناً منه بعودتهما إلى حالتهما الطبيعية، لكن هذه العمليات ما هي إلا مخدر طويل، فهل تراه اهتاج وثار؟ كلا! لأنه كان يعلم بأن هذا لا بد منه وأن الثورة النفسية والاهتياج لا يغيِّران من واقعه شيئاً. وكل ما عمله ليخفف من بلواه هو تطبيب الآخرين ومساعدتهم، فرفض أن يستقل بغرفة وحده وأبى إلا أن يشارك زملاءه من المرضى الذين يعانون ما يعاني هو من الآلام، وبينما كانت تجرى له إحدى العمليات الجراحية في المستشفى، كان يحاول أن يرسم نفسه وهو يحس بكل ما يجري له في عينيه - كم هو محظوظ! كان يقول: ما أغرب الطب الذي استطاع أن يعالج شيئاً دقيقاً وحساساً في الإنسان ألا وهو العين.
فالإنسان العادي عندما يرى نفسه وهو يُجرى له اثنتا عشرة عملية جراحية في أدق مركز حساس في جسمه ألا وهو عينه، عندما يرى نفسه على هذه الحال يفقد أعصابه ويتراخى أمام هول المصيبة. لكن يوت كان دوماً يقول: إنني في هذه التجربة أسعد وأهنأ من أية تجربة مررت بها في حياتي. لقد لقنته الحياة درساً، أن ليس فيها مستحيلاً وشيئاً صعباً طالما أن له قدرة على الحركة والعمل، وقد قال أحد الذين تألموا إن فقد العينين وهو الشاعر جون ملتون بأنه ليس البؤس أن تكون فاقد البصر، ولكن من البؤس أن لا تستطيع احتمال فقدان البصر هذا؟