إبراهيم بن سعد الماجد
التقنية في تحدٍ مستمر مع كل ما ورثناه، فهي كالنار كل لحظة تلتهم شيئًا مما نعتز به!
بالأمس القريب كان عشاق العلم والأدب يجثون على الركب في حلقات العلم، وكانت قاعات الأندية تعمرها الأمسيات الشعرية، ويأتي الناس من كل حدب وصوب، ويقضون الساعات، ربما في أجواء قارسة أو لاهبة، ما زلت أتذكر قاعة مؤسسة الملك فيصل الخيرية تمتلئ على الرغم من رحابتها، ويقف الناس في الممرات عندما تقام أمسية شعرية لعدد من الشعراء.
التقنية زحفت زحفًا طاغيًا فجعلت من الجمهور يستمتع بسماع أمسية شعرية، أو جلسة نقدية، أو محاضرة علمية، وهو في منزله، أو نزهته، بل ويحاور ويناقش، ويسأل.
أحد الحسابات الأدبية في تويتر (مجالس أدبية) خط له خطًا، وذلك بأن يفتح مساحة عبر تويتر مرة في الأسبوع ولساعات متواصلة، ويطرح موضوعًا للنقاش، وقد استمعت قبل ليالٍ لجلسة من هذه الجلسات، خصصت عن شعر المتنبي، وكفى بالمتنبي جاذبًا للاستماع، ومشجعًا على السهر والشبع والارتواء.
أليس هو القائل:
أنا الذي نظر العمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وفعلًا كانت هذه المساحة - التويترية - مساحة نقاش بين محبي شعر المتنبي ومتذوقيه، ولذا كان السهر حتى بعد منتصف الليل في أخذ وعطاء، وكأن أحمد بن الحسين تضمه هذه المساحة.
من العجيب أن شعر المتنبي على الرغم من أن الكثير من الناس يحفظون مقطوعات منه، نظرًا لكونه شعر حكمة، وشعر فخر، وشعر عزة، إلا أن الناس لا يملون سماعه، بل ويأتون سراعًا عندما يذكر المتنبي.
قصيدته العتابية لسيف الدولة التي يقول فيها:
واحرّ قلباهُ مِمَّنْ قلبُهُ شَبِمُ
ومنْ بجسمي وحالي عنده سَقَمُ
ما لي أكتمُ حباً قد برى جسدي
وتدعي حُبّ سيفِ الدولة الأممُ
إن كان يجمعنا حبٌ لغرته
فليتَ أنَّا بقدرِ الحب نقتسِمُ
قد زُرتهُ وسيوفُ الهنْدِ مُغْمَدَةٌ
وقد نظرتُ إليهِ والسيوفُ دمُ
فكان أحسنَ خلقِ اللهِ كلَّهمِ
وكان أحسنَ ما في الأحسنِ الشيمُ
فَوْتُ العَـدُوِّ الـذي يَمّمتـُه ظفَرٌ
في َطيِّهِ أَسَفٌ في َطيِّهِ نِعَمُ
قد نابَ عنكَ شديدُ الخوفِ واصْطنَعَتْ
لك المهابةُ ما لا تصْنعُ البُهَمُ
ألزَمْتَ نفسك شيئاً ليسَ يلزمُها
أنْ لا يُواريهُمُ أَرْضٌ ولا علمُ
أكلما رُمْتَ جيشاً فانثنى هَرَباً
تصَرّفَتْ بِكَ في آثارِهِ الهمَمُ
عليكَ هَزْمُهُمُ في كُلِّ مُعْتَرَكٍ
وما عليك بهم عارٌ إذا انهزموا
أما ترى ظفَراً حُلْواً سِوى ظَفَرٍ
تصافَحَتْ فيهِ بيضُ الهندِ واللَّمَمُ
يا أعدلَ الناسِ إلاّ في معاملتي
فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحَكَمُ
أعيذها نظَراتٍ مِنْكَ صادقةً
أنْ تحْسَبَ الشحْمَ فيمن شَحْمُهُ وَرَمُ
وما انتفاعُ أخي الدنيا بِناظِرِهِ
إذا استَوَتْ عِندَهُ الأنوارُ والظُلمُ
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا
بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي
وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ به صَمَمُ
أَنامُ ملءَ جفوني عَنْ شوارِدِها
ويسهرُ الخلقُ جَرّاها وَيَخْتصِمُ
وجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي
حتى أتتهُ يَدٌ فَرّاسةٌ وَفَمُ
إذا رأيت نيوب الليثِ بارزةً
فلا تظنَنَ أَنَّ اللّيثَ يبْتسِمُ
ومُهْجَةٍ مُهْجتي مِنْ هَمِّ صاحِبها
أَدْرَكتها بجَوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ
رجلاهُ في الركضِ رجلٌ واليدانِ يدٌ
وفعلُهُ ما تريدُ الكَفُّ والقَدَمُ
ومُرْهَفٍ سِرْتُ بين الجَحْفليْنِ بِهِ
حتى ضَرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يلتطِمِ
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحْشَ مُنفرداً
حتى تعَجَبَ مِنِّي القورُ والأَكَمُ
يا مَنْ يَعِزُّ علينا أَنْ نفارِقَهُمْ
وجْداننا كًلَّ شيءٍ بعدكُمْ عَدَمُ
هذه القصيدة الكثير من العرب يحفظونها أو يحفظون بعض شواهدها، نظرًا لغزارة معانيها، وملامستها لواقع البعض.
يأتي قوله البليغ، بل المصور الدقيق لحالات الناس الذين يتمتعون بالإخلاص والصدق مع من أحبوهم واخلصوا لهم، ولكنهم جهلوا ذلك وانصرفوا إلى غيرهم، ليصف حالة الناس على مر العصور، ولذا كثيرًا ما نسمع «يا أعدل الناس...» إلى آخر البيت، كرسالة عتاب مغلفة بالمحبة:
يا أعدلَ الناسِ إلاّ في معاملتي
فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحَكَمُ
أعيذهـا نظراتٍ مِنكَ صادقةً
أنْ تحْسَبَ الشحْمَ فيمن شَحْمُهُ وَرَمُ
وما انتفاعُ أخي الدنيا بِناظِرِهِ
إذا استوَتْ عِندَهُ الأنوارُ والظلُمُ
أعتقد جازمًا أن المتنبي الذي وصف بشاغل الناس، جاء في شعره على كل مكامن الأوجاع التي كانت في زمانه، والتي حدثت بعد وفاته، ولذا عشق الناس شعره، وحفظوه، وصار ملازمًا لهم في كل أحوالهم، في الفخر والكرم، في الفرح والترح، في الوفاء والغدر.
يا سبحان الله أخذني المتنبي عما أردت الحديث عنه!
مقالتي كانت عن هذه المساحات في تويتر، وأنها أصبحت بديلاً عن قاعات المحاضرات، ومسارح الشعر والنقد، وجمعت لنا ما لم تكن تجمعه القاعات والمسارح، ففيها ناقد من المشرق وآخر من المغرب، وشاعر مهجر، وشاعر محجر، وفقيه حنبلي، وآخر شافعي، وثالث حنبلي، ورابع ظاهري.
لا أنكر وجود الغث، لكن المؤكد أن هذه المساحات تعد إضافة معرفية مهمة.
لذا فإن رسالتي لكافة العلماء والأدباء والشعراء، أن يثروا هذا الفضاء، من أجل إفادة الناس ونفعهم.