د.فوزية أبو خالد
عنوان الكتاب
لا بد أن يثير العنوان بعضاً من حراس اللغة خصوصاً أولئك الذين نجحوا في قص أجنحتهم الشعرية في سبيل الإخلاص الحرفي للقواعد، فالكتاب يحمل عنوان سيرة الأمهات بما قد يشكل تضاداً نحوياً في الجمع بين المفرد والجمع في مسمى واحد ولكن كما يجوز للشعراء ما لا يجوز لغيرهم في حق التمرد اللغوي تركيباً أو صوراً أو مجازات فإنه يحق للأمهات ويحق للكتابة عن الأمهات ما يحق للشعراء في إطلاق أعنة الخيال في سماء الإبداع
فكتاب الأمهات هو سفر جماعي لذات واحدة متفردة, وهو نشيد شعري متواصل من أول حواء على هذه الأرض لما بعد آخر حواء في المخيال الفردي والجمعي وبهذا المعنى كان من الخيانة التمسك القالبي باللغة على حساب المعنى وعلى حساب طبيعة الكتاب وأبعاده الظاهرة والخفية
ولا أنسى أن أشير للكلمة المكملة لعنوان الكتاب (سيرة الأمهات/ الكتابة بحبر الحياة)، فعدا عن أن الكتابة بحبر الحياة تجترح تعبيراً جديداً فإنها تعمق الحس بقيمة الماء في تكوين الأمومة وفي فعل الحياة الذي تجترحه الأمومة ببساطة وعمق كفعل يومي خلاق.
غلاف الكتاب
يتعمد الكتاب من الصفحة الأولى تقديم مزيج نادر من الفردانية للتيار الجمعي، ومن الحيز البيتي للفضاء الشاسع. فعلى غلاف الكتاب نجد ذلك الرمز العشتاري المريمي المتدفق بالخصب في أخيلته الأسطورية وفي تجسده المعيشي وبلونه البحري وكما جاء في الكتاب (هذا الغلاف هدية للأمهات وهدية إلى اللغة العربية الأم) من الفنان الشاب وافي بن محمد بخيت من الحسا المنطقة الشرقية الذي أبدع في رسم الأم بحروف اللغة العربية بمزيج من لون الماء ولون السماء كما أبدع الفنان في كتابة جميع أسماء المشاركات والمشاركين في الكتاب بخط عربي متدفق من حضن الأمهات.
مقدمة الخضر للكتاب
أضاء كتاب سيرة الأمهات ذلك التحليل السيسيولوجي العميق الذي كتبه المفكر والكاتب السعودي عبدالعزيز الخضر بعد قراءته لنصوص الكتاب ووقوفه على البعد التاريخي والتراثي إلى جانب البعد الاجتماعي والإنثروبولوجي والتوثيقي والاستشرافي للكتاب.
من هم أبطال الكتاب؟
خمسون قامة..
وخمسون قلما..
يشكلون رايات الحبر الأبيض التي كتب بها الكتاب، يمثلون المجتمع السعودي رمزياً بكل تنوع النسيج الاجتماعي وأطيافه المؤتلفة في وحدة المملكة والمختلفة في تشكيل تنوعها وتعددها الجغرافي والتاريخي والثقافي والبشري كينابيع متعددة رافدة على قدم المساواة للحمة الوطنية فالمشاركات في هذا الكتاب تعمدت أن تكون تمثيلاً لكل مناطق المملكة، بكل تشكيلاتها الثقافية وكل مكوناتها الطبقية وكل تعدد الأجيال وتداخلها واستقلالها.
أمثلة للأمهات الممثلات في الكتاب: الأم دكتورة, لم تذهب للمدرسة، راعية, مزارعة, ربة بيت, مواجهة للتحدي, مربية لمواجهي التحدي، مغتربة، من الحضر من البدو من المملكة من خارج المملكة.. إلخ التنوع.
والكتاب كتبه الأبناء بالعدد نفسه تقريباً الذي كتبته البنات بأقلام مدربة على الكتابة.
لماذا كتاب في سيرة الأمهات؟
فكرة الكتاب رمت شرارتها في روحي أمي الشريفة نور الهاشمي وقد تكاثرت تلك الشرارة في دمي مع كل قصة كفاح وقصيدة عشق خطتها أمي ومطلق الأمهات على كتاب الحياة.
مراحل التفكير في كتابة سيرة الأمهات
المرحلة الرومانسية: في البداية كانت أمنيتي أن أكتب كتاباً عن سيرة الأمهات تتشابه أو تتمثل في أغنية (ست الحبايب) (الأم التي نمرض لتطببنا، نجوع لتطعمنا، نبكي لتضحكنا «كتيبة ملائكة اسمها الأم»).
المرحلة الثانية: رغبة في الكتابة عن الأقدام التي تحتها الجنة، الأكف الضارعة، النفوس المتعالية على الرغبات الإنسانية اليومية. الأم رمز التفاني والتسامي وكتم الجراح.
مرحلة التمرد: أردتُ الكتابة عن الأم التي تقمع تمردها وشغبها العذري وتقمع الأبناء والبنات لصالح أن تخرجهم مواطنين صالحين حسب الخطاب السائد وإن بسلبهم بعض حقوقهم الإنسانية مثل حقهم في الاختلاف في استقلال الذات في التعلم من تجاربهم وفي أن يبتعدوا عن الحضانة الوالدية والمجتمعية.
مرحلة التماهي الوطني لسيرة الأمهات
ما الوطن إن لم تكن قامة الأم رايته التي لا تنحني إلا لله وإن لم يكن حبها أجنحته التي تحمله وتحملنا إلى آفاق الحرية. فليس سوى الأمهات يحولن الحروب إلى برد وسلام وليس سوى الأمهات يغيرن الانقسام لتلاحم ودجى الجهل لرهجة معرفة؟ ونجد أمثلة سامقة في الشعر والنثر معاً من الكتابة عن الأم كمعادل للوطن.
الأم وطن وليس هناك سيرة للأمهات يمكن عزل شجنها الشعري ونسيجها الاجتماعي عن مكونات تراب الوطن. والسؤال هو ليس تلك العلاقة المشيمية بين الأمهات والأوطان ولكن السؤال التعجبي المستحق هنا ما أقسى الأوطان التي لا تشبه الأمهات؟!
سيرة الأمهات بعين التساؤل
هل يمكن كتابة سيرة الأمهات فقط بعين الرضا وبخفض الأجنحة وبحبر يتستر على الأسئلة بالسكوت أو التجاهل عن تجربة الأمومة بطبقاتها المعقدة والعميقة؟!
هل الأمهات كائنات مثاليات لأنهن يحافظن على استمرار السلالة البشرية بأقسى أشكال الجهد الإنساني وهو جهد الحمل والولادة والرضاعة والتنشئة؟ هل حقاً أن الأمهات كائنات ملائكيات، وهل الأمومة هي تجريد للأمهات بالمعنى التطهيري من زعانف المخلوق الأرضي؟ هل الأمومة متغيرة بعوامل الزمان والمكان والطبقة الاجتماعية والخلفية الثقافية والسائد السياسي من حيث الأدوار والوظائف والقيم.. أم إن الأمومة حالة ثابتة عبر الأزمنة والأمكنة يدخلها الأمهات بنات خاليات ويتحولن عبرها لرسل مثقلات بأعباء القدسية؟!
أحياناً يخيل لي أن الأمومة هي المسلمة الوحيدة (الثابتة المتحركة) (الشعرية السيسيولوجية) (التجسيد والرمز) التي نادراً ما يجري مساءلتها عبر التاريخ البشري. وكأنها اليقين القاطع في الشك الدائم. فهي تمثل أقصى مرتقيات الرحمة وأقصى تخوم الأخلاق وأسمى أنواع النبل ولذلك يجري النظر والتعامل مع الأمومة بمثالية شديدة ظالمة, قد تفرض عليها نوعاً من الصنمية الذي يتعذر معها النظر والتعامل مع الأمومة كمنتج أرضي بما يمنع التعامل مع الأمهات كمخلوقات من لحم ودم وعقل وعاطفة ويحجب النظر إليها كخليفة الله على الأرض في جدل العمران والنقض وفي جدل الطوفان والسفينة والنصر والهزيمة, والكمال والنقص والموت والحياة.
الإطار النظري للكتاب
كان من الصعب التفكير في كتاب عن سيرة الأمهات بعيداً عن («سيسيولوجيا» الأمومة), باختلافها التجديدي عن علم الاجتماع الأسري, وسيسيولوجيا النوع الاجتماعي Gender Sociology وإن بتعالقه مع علم اجتماع المعرفة Sociology of Knowledge ومع النقد النسوي ولكن باعتبارها فرعاً علمياً جديداً ينتمي لمرحلة ما بعد الحداثةPost) (Modernism ولمنطقة تمازج وتداخل التخصصات العلمية Interdisciplinary)), وإن كان كتخصص لم ينتشر بعد إلا في جامعات غربية محدودة، ولهذا فقد عمد الكتاب إلى تقص بحثي عن موقع الأمهات في العلوم الاجتماعية اليوم وفي التفكير العلمي والتفكير النقدي في الجامعات العالمية وبيوت الفكر.
ما قبل الخاتمة
وأخيرًا وباختصار آمل ألا يكون مخلاً في الإجابة على سؤال لماذا مبادرة هذا الكتاب بالقول للوقوع على سر الأمومة ولتوثيق سيرة الأمهات بالمجتمع السعودي. فسيرة الأمهات على مركزيتها الاستراتجية في حياة الأفراد والشعوب والمجتمعات والحضارات فإنها لم تحظَ في المعرفة الأدبية والعلمية معاً إلا بمواقع عادية إن لم تكن هامشية ومن خلال أعمال فردية في الشعر والنثر كما ورد معنا. فتأتي مبادرة هذا الكتاب من قلب أرضية بحثية بكر محملة بهذا الزخم المتنوع من سيرة الأمهات لتفتح الباب وتؤسس لأدب اسمه أدب الأمهات ولتشارك ولو بسهم في تفكير بحثي نقدي حر لقراءة سيرة الأمهات كمعطى معرفي وميداني وكموضوع قابل للدراسة العلمية في جامعاتنا.
وفي هذا السياق الأخير أشير بكثير من الدهشة للتجربة التي أشرفت عليها د. نوال السويلم بجامعة الأميرة نورة عبر تكليف الطالبات بتقديم عدة بحوث ذات طابع سيميائي ولغوي واجتماعي في دراسة سيرة الأمهات لهذا الكتاب.
خاتمة
في الختام أريد أن أسجل تلك التجربة الأولى غير المسبوقة التي أقدمت عليها مكتبة التراثية بإقامة فعالية لتوقيع الكتاب في شهر نوفمبر الأسبوع الأول من صدوره. وقد أقيمت تلك الفعالية في الهواء الطلق التزاماً بالاحترازات الاجتماعية لكوفيد 19 وقتها
مما كان مشهداً شعرياً بحد ذاته أن تقف مجاميع من عشاق الكتب والأمهات في صف حضاري طويل لتوقيع سفر الأمهات.