عبدالمجيد بن محمد العُمري
في يوم السبت 1 ربيع الآخر 1443هـ المقابل 6 نوفمبر 2021، وافى الأجل المحتوم الشيخ البطل معمر إيف زوكورليتش الرئيس السابق والمفتي العام لمشيخة السنجق الإسلامية في صربيا، عن عمر يناهز الثانية والخمسين عاماً. فانطوت بانتقاله إلى جوار ربه صفحة مشرقة من صفحات الدعوة إلى الله وخدمة الإسلام والمسلمين، وقد تركت وفاته في نفوس الذين تواصلوا وعملوا معه وعاملوه وصاحبوه أسى بليغاً وحزناً عميقاً.
لقد كان الفقيد من المناضلين الذين خطوا الخطوة الأولى في سبيل الدفاع عن حقوق المسلمين في بلاد البلقان (يوغسلافيا سابقاً) وتجرع مع كل المسلمين عامة وطلبة العلم خاصة مرارة الحرب والامتحان والابتلاء كما تجرعها المخلصون الأوفياء من أذى العدوان الغاشم من الصرب والكروات على مسلمي البوسنة والهرسك، وناله ما نال غيره من المتمسكين بحقوق المسلمين وحريتهم ومبدأ الثبات على الحق.
كان من فضل الله عليه أن تخصص في العلوم الشرعية منذ صغره، فقد ولد في 15 فبراير 1970 في قرية أورلي بالقرب من توتين، حيث نشأ مع والديه وشقيقين أصغر منه، وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية في مسقط رأسه، التحق بمدرسة غازي خسرو بك في سراييفو.
وأكمل دراسته في فلسفة الشريعة (أصول الفقه) في الجامعة الإسلامية «الأمير عبد القادر» بقسطنطينة، الجزائر، كما أكمل دراساته العليا في مجال التفسير في جامعة الجنان في طرابلس، لبنان.
وخلال أزمة وحروب البوسنة والهرسك وبعدها كان مثالاً للمسلم الصادق المعتز بدينه والمحافظ على هويته، وكانت سيرته من السير المليئة بالنضال والعمل الجاد والإخلاص لدينه ولأهله ومجتمعه وللمبادئ والمثل العليا والقيم في الحياة اليومية وفي مسيرته العملية، وخلالها كان العالم والداعية الأمين والخطيب البليغ الرصين الذي لا يغيب عنه الجودةُ والإحكامُ والإتقان وحسن البيان، فتألق نجمه في الجوامع والمدارس والمليات، وقد عمل -رحمه الله- مدرساً لسنوات عديدة في مدرسة غازي عيسى بك في نوفي بازار، ومحاضرًا دائمًا في مجموعة المواد الدينية واللغة العربية في المجمع التربوي الإسلامي (كلية الدراسات الإسلامية)، وهو أول عميد للأكاديمية الإسلامية التي نمت لتصبح كلية الدراسات الإسلامية عام 2001 ، وأول عميد لجامعة نوفي بازار الدولية منذ تأسيسها عام 2002.
كانت حياته العلمية والاجتماعية والسياسية غنية بالحيوية الإيجابية، وحقق نتائج مهمة للغاية في التأكيد على حقوق البوشناق والحفاظ على هويتهم الإسلامية وتماسك المجتمع الإسلامي في صربيا (في منطقة صنجق التي يسكنها أغلبية مسلمة من أصول بوسنية).
تم انتخابه أول رئيس للمشيخة في أكتوبر 1993 وأعيد انتخابه في عامي 1998 و2003. وكان مرشحاً لرئاسة المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك في عام 2019 وحصل على المرتبة الثانية.
وحينما تولى منصب الافتاء كان عضوًا في البرلمان الصربي، ولم يكن صوته خافتاً بل تميز بالصوت القوي في الدفاع عن المسلمين والجالية البوسنية في صربيا بكل قوة وشجاعة ورباطة جأش.
وإلى جانب التعليم والدعوة والإفتاء صدرت له مجموعة من الكتب وكان له حضور إعلامي في معظم المحطات التلفزيونية والإذاعية في صربيا يبين تعاليم دين الإسلام ويبرز محاسنه للشعب الصربي.
ورغم ما يمتاز به من القوة والصراحة إلا أنه كان يألف ويؤلف ويحظى بتقدير الصغير والكبير في مجتمعه، لدماثة خلقه وصدق التزامه وكرم سجاياه، وحبه لمساعدة الآخرين وخاصة طلبة العلم، وقد فتح أبواب المشيخة للطلبة المسلمين الذين تخرجوا من جامعات المملكة العربية السعودية ومكنهم من التعليم والدعوة، وكان لا يمل من المساعدة الباذلة للمسلمين وتقصي حوائجهم، وأسهم في بناء جوامع ومدارس وكليات، ولشخصيته الفذة فقد لقي تقديراً واحتراماً من غير المسلمين أيضاً.
وبوفاته فقد المسلمون في البلقان عماداً وثيقاً، وتألموا ألماً ممضاً وعميقاً لفراق هذا الشيخ الذي نذر حياته للدعوة والعلم ومات في رحاب العلم وهو يلقي الدرس في الجامعة على تلاميذه في يوم إجازة رسمية.
أجزل الله للشيخ الراحل معمر إيف زوكورليتش الرحمة والغفران وأسكنه دار الخلود جنة الرضوان ... و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.