مهما كتب الشعراء عن الحب والغرام والفقد، وغنّى الفنانون ورثى المحبون، وأُلفت قصص وروايات الحب ومات أبطالها العاشقون، لن يكون هناك فقد أعظم من فقد الأب ورحيله.
مضى على رحيل والدي نايف بن صخيبر رحمه الله إحدى عشرة سنة ذقت بها وحشة الغربة الروحية وألم الفراق ابتعدت عن محيطي فضلت العزلة لم تستهوني مجالس الأنس ولا ليالي السمر في الشتاء كان والدي صديقي وحبيبي ومستودع أسراري وكان بيننا ارتباط لا يمكن أن يمر يوماً دون الجلوس معه نتبادل أطراف الحديث داخل منزلنا أو يخرج معي بسيارتي خارج المنزل لنتجول سوياً في الأماكن التي تستهويه كان يرفض فكرة أن أعمل في مكان أكون بعيداً عنه وكان يردد دائماً بلهجته العامية «لا تروح عني يا ولدي أنا ما أصبر عنك الرزق على الله».
أكرمني الله بعمل جعلني قريباً منه. أصيب رحمه الله بضعف في عضلة القلب أصبحت بعدها ملازماً له أكثر من ذي قبل. كنت أتألم لألمه وأفرح لفرحه عندما أراه سعيداً.
كان يخفي عني ألم المرض حتى لا يشعرني بذلك لمعرفته بتعلقي الشديد به. كنت طوال فترة مرضه أخشى اليوم الذي أصحو من نومي على خبر رحيله مع إيماني بقضاء الله وقدره. استمر هذا المرض لعدة سنوات حتى أنهك جسمه النحيل وأضعف قواه وألزمه الفراش وأصبح رفيقاً للأدوية والمسكنات وفي إحدى الليالي لم يستطع النوم من شدة الألم حملته لمستشفى الحرس الوطني بالرياض الذي يبعد عن مقر إقامتنا 480 كيلو وأدخلته المستشفى وأبلغني أطباء القلب بعد أخذ العلامات الحيوية والفحص والرجوع لملفه الطبي بالمستشفى بأن القلب في مراحل متقدمة ولم يكن باستطاعتهم عمل أي شيء. أدخل أحد الأقسام.
كان رحمه الله يطيل النظر بي وكأنه يحس بأنه يعيش في أيامه الأخيرة. قمت بنقله لمركز القلب بمستشفى الملك فهد التخصصي بمدينة بريدة لعل يكون هناك تدخل وعمل شيء يعيد لنا الأمل من أزمته الصحية حيث لم يلبث إلا عدة أيام ليست بالطويلة ورحل والدي إلى رحمة ربه تاركاً فراغاً كبيراً لن يسد بمكانه أحد لازلت أتذكر ابتسامته ونكتته المعهودة عندما نجتمع حوله أنا وإخوتي كان يتسم بقوة الشخصية وقول الحق ولا يخشى مواجهة أحد ولكنه في البيت الأب العطوف الحنون الرحيم لم يكن رحمه الله شغوفاً بحب وجمع المال أو الاهتمام بالدنيا أو جعلها أكبر همه كان يزرع فينا القيم والمبادئ الأصيلة ويحثنا على الحرص على الصلاة والانتماء للوطن وعزة النفس والترفع عن الأشياء التي قد تقلل من قيمتنا. لم نحتج لأحد طيلة حياته وبعد مماته.
أتذكره بعد رحيله في كل شيء في المسجد الذي كنا نذهب له سوياً لأداء الصلاة جماعة وفي جلسته بعد الفجر وأتذكره في السيارة عندما يكون في جانبي وجميع الأماكن أصبحت تذكرني به لازلت أنا وأخواي محمد وأحمد اللذان يصغرانني بعدة سنوات نتمسك بتوجيهاته لنا ونحرص على التواصل مع أصدقائه متى ما سنحت لنا الفرصة. آه ما أقسى رحيل الأب وعظيم الفقد وطول الغياب الذي لا يرجى به حضور الغائب.
** **
- مشعل الصخيبر