عمر إبراهيم الرشيد
كنت في جلسة عائلية مع أولادي الصغار وهم يقلبون قنوات (اليوتيوب) فوقع اختيارهم على قناة لأسرة تقدم حلقات تمثيلية تتناول ألعاباً مسلية ومقالب خفيفة وأسرية متنوعة، وقد ذكر لي ابني الأوسط أن رب هذه الأسرة كان يعمل في القطاع الخاص فقد استقالته للتفرغ لهذه القناة، لأنها أصبحت مصدر دخل مادي معتبر، نظراً لحجم المتابعين والدعايات التي يقدمها خلال تلك الحلقات، وكونت له ولأطفاله المشاركين شهرة سريعة. فتبادر إلى ذهني مقارنة خاطفة بين هذا الرجل وأولاده وبيني (كمثال) وعناء العمل في مشروع حكومي في إحدى محافظات منطقة الرياض، مع مرتب شهري يعادل ما يتقاضاه صاحب القناة المذكورة في يوم أو أسبوع واللهم لا حسد له ولا لغيره، لكنه زمن الإعلام والاتصال الاجتماعي والثورة التقنية والواقع الذي لا يمكن إنكاره، برغم أن المحتوى هزيل في معظمه مع عدم تجاهل أمثلة ثرية المحتوى والهدف.
هذا زمانهم، والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان أن هذه الثورة الرقمية ما هو منتهاها وأين تتجه بالبشرية، فمعروف أن من سنن الله في الخلق والمخلوقات أنه مهما ارتفع الإنسان وما ينتجه ويفعله فلابد له من توقف (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع). وأرجو ألا يفهم القراء الكرام كلامي على أنه تنكر للتقنية أو إنكار لآثارها الإيجابية في تسهيل واختصار وتحسين ما لا يحصى من أوجه الحياة وإنجاز الأعمال وتقديم الخدمات للبشرية بأسهل الطرق، لكن لكل منجز بشري نواقصه وجانبه السلبي، وبالأخص إذا لم يأخذ بالاعتبار الجانب الأخلاقي والقيم الإنسانية، بل حتى بعض المهارات الحياتية والاجتماعية يتهددها الخطر بسبب التأثير السلبي في تعامل الملايين من البشر مع هذه الثورة الرقمية ووسائطها بشكل مفرط. ومن هذه المهارات، كنت قد كتبت هنا من قبل عن إعادة مدارس في أمريكا وهي أم التقنية في العالم، لمادة الخط أو الكتابة اليدوية لأن استخدام الأجهزة اللوحية جعل الملايين المؤلفة من البشر ضعيفي الخط، وبعضهم تشبه كتابته كتابة الأطفال في المرحلة الأولية، بسبب قلة الكتابة بالقلم والجفوة بينه وبين الأصابع. وكان قرار وزارة التعليم لدينا بإعادة مادة الخط في التعليم العام من أبرز القرارات الناجحة، ولا أدري إن كانت الجامعات قد أقرتها لأني أراها من أبرز المهارات التي يفتقدها الطلبة الجامعيون، بل طلاب الدراسات العليا بلا مبالغة. عدا عن ذلك وهذا في غاية الأهمية والخطورة، وهي مهارات التواصل الاجتماعي المباشر وليس الافتراضي لفئة الشباب والأطفال من الجنسين، ومسألة التشتت الذهني والخمول الجسماني والترهل الذي طال الكثيرين منهم بسبب طول الساعات التي يقضونها أمام الأجهزة اللوحية، وحيرة الوالدين وأنا منهم في كيفية إقناع الأولاد بالتخفيف ولا نقول بترك هذه القنوات والألعاب والأجهزة تماماً، إنما بتقليل الوقت المهدر في هذا الفضاء الافتراضي المخيف.
وصحيح أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال (لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم) وهذا من حكمه وعمق فكره رضي الله عنه، ولكن لا يفهم من هذا تركهم وما هم عليه وفيه دون مساندتهم وحمايتهم من هذه الشهب الوهاجة الملتهبة، إلى اللقاء.