عبدالرحمن الحبيب
مع كورونا أصبح العمل عن بعد جزءًا أساسيًا من العمل وقد يصبح الجزء الأكبر حتى بعد انتهاء الجائحة.. قبل شهر من إعلان جائحة كورونا (فبراير 2020) كان معدل ساعات العمل من المنزل 5 في المائة في أمريكا؛ لكن بعدها بشهرين قفزت النسبة إلى 60 في المائة. كان المتوقع أن تلك ستكون مرحلة مؤقتة إلا أنه بعد مرور أكثر من سنة ونصف السنة لا تزال 40 في المائة من جميع ساعات العمل الأمريكية تقضى في المنزل. من اليابان إلى كندا ظلت المناطق التجارية في المدن أقل ازدحاماً إلى حد كبير مقارنةً بما كانت عليه قبل انتشار المرض. كثير من الشركات والبنوك ممن كانوا يدافعون عن العودة الكاملة للعمل حضوريا أظهروا تراجعاً عن رأيهم، وصاروا يؤيدون العمل المختلط بين الحضوري والعمل عن بعد..
وفقًا لمسح شهري يجريه ثلاثة خبراء اقتصاديين (خوسيه ماريا باريرو، نك بلوم، ستيفن ديفيس)، توقع رؤساء العمل في أكتوبر أن العمل من المنزل سيكون بمعدل 1.3 يومًا في الأسبوع أي أكثر بمعدل الربع مما توقعوا عندما سئلوا نفس السؤال في يناير؛ فيما يأمل العاملون أن يقضوا ما يقرب من نصف ساعات عملهم في المنزل. هل سيصبح العمل عن بعد هو الأساس، ولماذا؟ هل لأنه أفضل إنتاجية بشكل عام؟ هذا ما يحاول الاقتصاديون فهم ما يعنيه كل هذا للإنتاجية (مجلة الإيكونيميست).
إذا تجاوزنا السبب الرئيس لاستمرار هيمنة العمل عن بُعد وهو جائحة كورونا، فإن أحد أهم الأسباب حسب الإيكونيميست هو أن العاملين يتمتعون بقدرة أكبر على المساومة الجماعية؛ ففي عالم من نقص العمالة، يتطلب الأمر مديراً شجاعًا لجعل الناس ينتقلون عبر رحلة مجهدة لخمسة أيام في الأسبوع (يرى العمال أن إجبارهم على العمل من المكتب بدوام كامل يعادل خفضًا في الأجور بنسبة 5 في المائة).
هناك احتمال أكثر إثارة للاهتمام؛ فمن المرجح أن العمل عن بُعد أكثر كفاءة مقارنةً بالعمل من المكتب حسب كثير من الأبحاث حول اقتصاديات العمل من المنزل، رغم أن قليل من الأبحاث لم تجد تأثيرًا إيجابيًا على الإنتاجية، إذ تذكر إحدى الدراسات (مايكل جيبس، جامعة شيكاغو) إلى أن جزءًا من انخفاض الإنتاجية يرجع إلى «ارتفاع تكاليف الاتصال والتنسيق». على سبيل المثال، قد يجد المديرون الذين يتابعون أعمال موظفيهم عن كثب صعوبة في نقل ما يحتاجون إليه بالضبط عندما يعمل الجميع عن بُعد. إلا أن معظم الدراسات وجدت نتائج إيجابية أكثر للعمل عن بعد (استطلاع هيئة الإحصاء الكندية).
ما هي أسباب زيادة إنتاجية العاملين عن بعد؟ لم تتراكم الدراسات بعد لتعطي فكرة واضحة، ولدى الاقتصاديين وضوح أقل لسبب زيادة الإنتاجية من المنزل.. من الأسباب المحتملة هو أن العاملين عن بعد يركزون على المهام بسهولة أكبر من المكتب، حيث الثرثرة مغيرة مع الزملاء في العمل الحضوري. علاوة على ذلك، فإن وسائل النقل للعمل والتنقل هو أمر مرهق ومكلف. ثمة عامل آخر يتعلق بالتكنولوجيا؛ إذ يعتمد العاملون عن بُعد، بالضرورة ، بشكل أكبر على أدوات مثل مايكروسوفت وسالك، مما قد يتيح للمديرين تنسيق الفرق بشكل أكثر فعالية، بينما البديل في المكتب هو التعليمات الشفهية التي يمكن نسيانها أو إساءة تفسيرها بسهولة.
إذا كان الأمر كذلك من تفوق إنتاجية العمل عن بعد فلماذا لا يتم اعتماده كأساس للعمل في الشركات؟ لأنه قد يضر بالابتكار، إذ تشير دراسة جديدة (Nature Human Behavior) إلى أن الشركات لديها سبب وجيه للاحتفاظ بمباني مكاتبها، حتى لو تم استخدامها بشكل أقل. فبعد دراسة الاتصالات (بما في ذلك الرسائل الفورية ومكالمات الفيديو) لستين ألف موظف في مايكروسوفت توصلت إلى أن العمل عن بُعد يجعل ممارسات تعاون الأشخاص «ثابتة ومنفصلة».. إذ يتفاعل الأشخاص بشكل أكبر مع أقرب جهات اتصالهم، ولكن بشكل أقل مع الأعضاء البعيدين عن شبكاتهم والذين يمكنهم تقديم وجهات نظر وأفكار جديدة لهم؛ وهذا ربما يضر الابتكار. المحصلة هي أن الفرق البعيدة قد تؤدي أداءً جيدًا على المدى القصير، لكنها ستعاني في النهاية مع جفاف في الإبداع والابتكار.
إذن، ما هي أفضل طريقة للعمل، من المنزل أم من المكتب؟ تقول الإيكونيميست ربما تكون مجرد مسألة وقت قبل أن يذهب كل شخص للعمل عن بعد بشكل كامل. تفترض العديد من الشركات أنه يكفي أن يأتي الجميع إلى المكتب بضعة أيام في الأسبوع، لأن هذا سيؤدي إلى اختلاط الناس ببعضهم البعض والتحدث عن الأفكار، أي انه سيجمع بين كفاءة الإنتاجية (العمل عن بعد) واستمرار الأفكار الجديدة والابتكار (الاختلاط والعمل في المكتب). بالمقابل هناك بعض الشركات، مدعومة بأدلة أقوى، ترى أن المديرين يجب أن يكونوا أكثر إرادة، وأن يجمعوا الأشخاص معًا بهدف صريح لمناقشة الأفكار الجديدة. سيتعين على الشركات أن تجرب طرائق متفاوتة بين هذا وذلك، وعندما تعتاد على طريقة جديدة للعمل، فقد يختلف الترتيب التفصيلي للعمل اعتمادًا على نوعيته. لكن ما يبدو واضحًا هو أن المكاتب ستظل تلعب دورًا بعد الوباء حتى لو كانت فارغة..