لقد فوجئنا برحيل الكتاب الكبير الشيخ علي محمد العمير صباح أمس السبت ففجعنا، حيث كان محبوه قبل فاجعة رحيله يرجون الله أن يمنَّ عليه بالشفاء فيخرج من عزلته ليستمتعوا بكتاباته الممتعة جداً.
إن الأستاذ العمير بجانب كونه كاتباً ساخراً كان يتفرد بحبكة متميزة سواءً كانت في عموده المشهور (تحت الشمس) أو في مقالاته العامة المفيدة.
وبدون شكٍّ أنَّ ما جعله متفرداً بأسلوبه -الذي تهوي إليه أفكار المتابعين والمعنيين بالثقافة - هو أنَّه يملك ثروةً ثقافية هائلة وأبعاداً ثقافية أصيلة لذلك قرأناه منافحاً عن هويته الثقافية الأصيلة بشجاعة وجرأة وكانت - دائماً - حجًّتُه مقنعه وكفته راجحة في كلِّ مناوشاته الأدبية.
تعرَّفتُ على الأستاذ علي العمر في جدة، حيث كان تعييني بعد تخرجي من الجامعة في منطقة جدة فأرسل له أخي الأكبر الشيخ حسين رسالة وقال لي: هذه الرسالة لصديقي علي العمير فقد تحتاج له في جدة وكان الأستاذ علي العمير يعمل حينذاك في جريدة البلاد فسلمته الرسالة في اليوم الثاني بعد صولي جدة وقبل توجيهي للعمل فرحَّب بي في مكتبه في جريدة البلاد في مقرها (عمارة با خشب) في ذلك الوقت
فكان إعجابي بالرجل لا من حيث استقباله لي، بل -أيضاً - من متابعتي لإسهاماته الصحيفة المثيرة ومقالاته الرائعة. وبجانب تميُّزِ الأستاذ العمير في كتاباته كان يمتاز بسرعة البديهة وأذكر في هذا أنَّي زرته مع الزميل الدكتور موسى القرني رحمه الله في منزله الواقع حينذاك في شارع الميناء ليسلِّمه رسالة من الأستاذ محمد البهكلي ردْف معها قصيدة رثائية في الملك فيصل رحمه الله - ونحن في عجلةٍ من أمرنا- أوصلنا الرسالة وحاولنا الانصراف فقال: مازحاً لا تخافا على ذهاب الوقت سنذبح (براد شاي) حالاً فابتسمنا وبادلنا بضحكة محبٍّ عزيز فاستجبنا لطلبه ودار بيننا حديث لم يتعدَّ حدود الأدب وأثناء الحديث سألته قائلا: أستاذي علي يقال: إن الشاعر الحقيقي يملك موهبة وإن هذه الموهبة إذا لم تصقل وتنم بالثقافات لن يبدع الموهوب قال : نعم قلت له: من أين كانت ثقافة شعراء العصر الجاهلي والقريب منه من العصور وأنت تعرف أن قصيدة الواحد منهم تعدل دواوين من الشعر المعاصر؟
فقال: بدون رجوع لكتاب واعتبر ما قاله جرأة لا يملكها إلا خبير فطن حيث أجاب بما معناه
أولاً: أن من تعنيهم هم أهل اللغة وهم أعرف بمفرداتها فضلاً عن المترادف والمتباين من اللغة.
ثانياً: أنهم كانوا يكتسبون ثقافاتهم من الطبيعة لأنهم لا يفارقونها والحروب لأنهم كانوا يعايشونها والغدران وما تحتويه من جمال لأنهم كانون يعيشون جل أوقاتهم يتمتعون بها... إلخ.
ثالثاً: أن الشاعر المبدع غالباً يكون راوية لشاعر أو لشعراء سبقوه وبهذه الإجابة عرفتُ سرَّ تفوق شعر ونثر القدامى ومن ذلك الوقت وأنا أحمل للأستاذ علي محمد العمير كلَّ الحبِّ والتقدير لا لشيء سوى أني وجدت فيه مروءة الرجال وثقافة الكبار ووفاءً قل أن يوجد في زماننا كما كان دافعي الشديد لمتابعة إسهاماته الصحفية لكنَّه انقطع فجأة عن مواصلة الكتابة فترة ليست بسيطة وعن الاتصال بالأصدقاء كذلك لكنْ بثقافية الجزيرة متمثلة في مديرها الدكتور إبراهيم عبد الرحمن التركي بادهنا بمقال (في بيتنا فأر كبير) فكنت من الذين استمتعوا بقراءة المقال فهاتفته بعد فراغي من قراءة المقال راجياً مواصلة الكتابة فوعدني إن سنح الوقت وساعدته الصحة فودَّعته داعياً له بالصحة وطول العمر ثم انتظرت بشغف لعل وعسى أن نقرأ له -عليه رحمة الله ومغفرته ورضوانه- فلم يكن شيئاً من ما نريد فكتبتُ مقالاً بعنوان (أين علي العمير؟) أسعدتني ثقافة الجزيرة بنشره حيث كتبتُ تحت العنوان.
لو قيل لي قبل ما يقارب أربعين عاماً - وهو الوقت الذي بدأ فيه عشق الحرف يملأ فراغي- من تفضِّلُ من كتاب الأعمدة اليومية؟ لقلت الأستاذ علي محمد العمير ولو سئلتُ قبل كتابتي هذه عن كاتب أصبح إسهامه الثقافي متقطِّعا وأرجو استمراره بدون عوائق لأجبت الأستاذ علي محمد العمير.
ولو قيل لي من تراه من أدبائنا يستحق التكريم أكثر من مرة ولم يكرَّم سوى في الجزيرة الثقافية لقلت: الأستاذ علي العمير؟أقول هذا: وأنا كغيري من متابعي كتابات الرجل أشكر الدكتور إبراهيم التركي إذ استطاع في العام المنصرم أن يخرجه من عزلته وأن يستجلي بعض ما نتوق إليه سواء من ذكريات الأستاذ علي العمير أو من تهويماته الفكرية التي أسعدنا بها في عدة مقالات كان آخرها (في بيتنا فأر) ثم انقطع ولا نعرف سبباً لانقطاعه لذا نرجو أن يكون الأستاذ القدير علي محمد العمير متمتعاً بصحة جيدة ونرجو من الدكتور الكريم إبراهيم التركي أن يحاول مرة أخرى ليتحفنا ببعض ما في جعبة الأستاذ العمير في الأعداد القادمة من الثقافية وأقول:
قطفنا من حدائقه كثيرا
أشئناه لطيفاً أم مثيرا؟
وما زلنا نتوق له ونرجو
له عمراً يطول لنستنيرا
(أبا يزنٍ) عليك عليك حتى
نرى ساحاتكم تحوي العميرا
عن الماضي جزيتم ألف خيرٍ
وللآتي لكم شكراً كثيرا
فإن لم يحفلوا بالشيخ إنا
نكنُّ لفكره حبَّاً كبيراً
ألم يكن المنافح عن أصيلٍ
وكان لصونه الرجل الغيورا؟
فكم أثرى النهى بمناوشاتٍ
عرفناه بها فوزاً جديراً
ثم مرَّت أعوام بعد نشر المقال والشيخ علي العمير مستمر في عزلته ونحن في شوقٍ صادق لخروجه من عزلته وعودته لكتاباته الشيَّقة.
{إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لقد طال الانتظار حتى فوجئنا بنبأ وفاته المؤلم وليس بوسعى وأقاربه وأحبابه إلا أن نعزي أنفسنا فيه ونرجو له رحمة الله ومغفرته ورضوانه.
** **
- منصور دماس مذكور