«الجزيرة الثقافية» - جابر محمد مدخلي:
في قرية صغيرةٍ وُلِد فتىً يقال له علي. نشأ إلى جوار والده حتى أسلمه إلى حلقات العِلم. ذلك الفتى نشأ بين دروس العِلم، ومحيط عُلماء ذلك الزمان: القرعاوي، وناصر خلوفة، وحافظ الحكمي وداخل هذا المثلث الديني النزيه الحريص على مدّ تلاميذهم بقوت العِلم والمعرفة دينيًا، ولغويًا، وأدبيًا. تنامت داخل هذا الفتى الطامح لغرف كل ما وجده أمامه من أنهار حتى بلغ بشيخه الحكمي حافظ أن ينقله عند افتتاح المعهد العلمي بمحافظة صامطة إلى المرحلة الثانوية دون أن يوقفه بالمرحلة المتوسطة - التمهيدي آنذاك- هذه العوالم التي عاشها الفتى علي العمير لم تكن لتنهض به فحسب بل جعلته قادرًا على اختراق صفوف المستقبل مبكرًا وبدأ التكوين الأول في مرحلة حياته، وذلك باتخاذ القرار الكبير بمغادرة المكان بحثًا عن جهةٍ تحمله لطموحات أكبر، ومشاريع تتناسب مع حجم رؤاه وتطلعاته التي صنعتها -بالتأكيد- حصائل المعرفة وحصاد المنهل من كبار المدارس العلمية في زمانه.
من جازان وتحديدًا قرية الجرادية التي عرفته جيدًا، والتي ضاقت هي ومنطقته بأكملها أن تهبه مقاسًا يوازي طموحه ورغبته العالية في تغيير منار مستقبله، وغرس أوتاد خيمة عمره القادم في مكانٍ يزرع فيه المناسب والأنسب لتطلعاته الصغيرة التي لم يكن أحد يدرك حجمها في تلك اللحظات وهو يترك طفولته، وذكرياته، ومعهده العلمي الذي أنهى مرحلته الثانوية منه، ومحكمته الواقعة بقرية (الموسم) التي عمل فيها لمدة وجيزة كاتبًا للضبط ويغادر كل هذا لسنوات امتدت، وطالت حتى حين عاد وجد قريته كبرت في غيابه، ومدينته اتسعت رقعتها، ومنطقته صارت على غير ما تركها يوم حزم حقيبته الجلدية البنية الصغيرة بأقل حوائجه مالئًا ما تبقى فيها من فراغات بهمّته، وطموحاته، وغيبه القادم عليه وأقداره التي في انتظاره.
بين جدة، والرياض عاش متممًا للعُمر، مفصلًا نجاحاته على مقاسه تمامًا. لم يكن يرى الأمور كغيره. كان إذا وضع يده بشيء أنجزه بعناية فائقة، وإذا طلب أمرًا أراده على رؤيته. في جريدة الجزيرة مثلًا.. قضى عمرًا جميلًا أعطاه للإبداع الإعلامي والذي نقله من مسيرة إلى أخرى في حياته يوم كانت الصحافة الصوت الأعلى، ووزارة أعلامٍ وثقافةٍ يطمح المثقف لدخولها كما لو أنه داخلٌ إلى سوق عكاظ، أو مجلس أحد الخلفاء الراشدين الذين يجزون على القصيدة وزنها ذهبًا. وتصاعد اسمه عاليًا. واتصلت به الأسماء، والأحلام، والأمنيات.. وصار له عموده الأبقى والأشهر والأكثر تأثيرًا في الصحافة المحلية والعربية «تحت الشمس» ولعلي أتذكر الآن وأنا أعدّ هذا التقرير حديثًا لأخيه من أبيه حين ذهبت إليه في إحدى الزيارات ردّه حول سؤالي عن سبب تسميته بعموده الصحفي هذه التسمية ليجيبني: «كان الأستاذ علي يكثر السهر، وتحديدًا حين عمل رئيس تحرير.. حيث إنه يستمر في عمله حتى تطلع الشمس، وكان يقضي أكبر متعه عند طلوع الشمس، فجاءت تسميته لعموده على هذا النحو».
في الجزيرة الثقافية جاء ثالثًا لرئاسة تحريرها: مسبوقًا بمحمد السرحي، وعبدالله نور. وما إن وصل حتى حمل البناء وراح ينجز كل ما أضاف وجعل منها مرجعًا ثقافيًا، وأدبيًا، وإبداعيًا ربطه بها ارتباطًا وثيقًا، وزادت العلاقة حتى بعد سنواتٍ طويلةٍ من مغادرتها حيث تؤكد لنا الرواية التي تقول: «ما أن علم الكاتب الكبير الأستاذ علي العمير بالتطوير الجديد للمجلة الثقافية إلا وتمنى أن يحصل على العدد الأول بعد التطوير بأسرع وقت ليرى التطور الذي نال المجلة مقارنة بالأعداد السابقة. العمير الذي حالت ظروفه الصحية دون وجوده في الساحة حاليًا عبَّر عن المكانة الكبيرة التي تحتلها «الثقافية» في نفسه مشيدًا بسعادة مدير التحرير د. إبراهيم التركي مستذكرًا الحوار والملف المعد عنه بالثقافية قبل بضع سنوات»
وهذا الخبر يعيدنا إلى حقيبته العملية التي ربطته بكل مكانٍ ينتسب إليه، وحقيقة تبنيه لمسألة الارتباط النفسي بالورق، ورائحته العريقة، وعلاقة العمير بها منذ بداياته وشبابه حيث رويّ لي من مصادر عدة بأنّ: «العمير يقرأ في اليوم لساعاتٍ طويلةٍ دون كلل ولا ملل، ولربما إن شعر بالنعاس وثمة كتاب جميل جذب انتباهه طلب كوب قهوة ليمده بسهر إضافي حتى يكمل هذا الكتاب» وفي روايات أخرى: «أنّه يقضي الأسفار بأكملها قارئًا لا يشغله منظر خلّاب، ولا موقف غير مواقف وبطولات ما بين يديه من أبطال عملٍ روائي، أو أحداث لم تمنحه فرصة التخلي عما هو منشغل فيه بقراءته».
وأمام هذه البراهين لنبوغ العمير، والدلالات الكامنة في تكوينه ونهضته المتصاعدة وحرصه لكل ما ينتمي إليه، ويشعر إليه بحب لا يمكننا تجاوز الذين عرفوه عن قرب، وشعروا معه بالألفة، أو لمسوا قيمة غيابه الطويل عن الساحة التي كان فارسها، والأمكنة التي كان ضوئها، أو الصحافة التي كان حرفها وشمسها.
يصف الناقد القدير الدكتور عبدالله الغذامي، بل ويرسم مسار علاقته الجميلة مع العمير في مقالة له قال فيها: «وفي الجزيرة الأم عرفت علي محمد العمير، وزادت محبتي له لأنه من (الموسم) وهو الاسم الذي كان يتردد على لسان والدي كلما تحدث عن ذكرياته في جازان، هنا ترابطت المجلة وعلي العمير وجازان لتتشكل علاقة خاصة مع من سأعرفه لاحقاً في جدة وستحل كنيته: أبو فوزي» هذا المسار الكبير الذي ورثه الدكتور الغذامي الأبرز في مشهدنا اليوم عن والده وعن العمير تحديدًا لا شك وأنّ لهذا الرجل أثره العظيم وإن جاز لي تسميته بأثر «التوريث الإبداعي» لفعلت؛ لأنّه جاء كتركةٍ كأنّ الجيل الذي سبق لا يعرف غيره، ولا يثق بسوى تأثيره وأثره ليتركه أمانة عند أبنائه ليواصل العمير كتاباته الإلهامية للأجيال « تحت الشمس» أو «على الماشي».
وهذا المحور يعيدنا إلى النظر فيما كان يكتبه العمير ليظل راسخًا في أذهان متابعيه وقرائه إلى هذا الحد، ويمكنني النظر بعين المواطن حين يقرأ كاتبًا معاناتنا ثم يرصدها في مقالة تصل إلى كبار المسؤولين وقيادات الوطن لتغير شيئًا وتحدث نقلةً نوعية عملاقة. ويمكننا النظر في مقالته القادمة التي رصد فيها حديثًا شفافًا من كاتبٍ إلى مسؤول وهو يكتب عن رؤية - صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله- وبذات التوقيت يكتب إليه قائلًا: «أعتقد يقينًا أن صاحب السمو الملكي الأمير (نايف بن عبدالعزيز) من خيرة المتفهمين جيداً، وبعمق متوغل لحقائق الأوضاع في بلادنا، ومجتمعنا، وبخاصة من الناحية الدينية، والفكرية، والثقافية، ومدى التضارب، أو التنافر بين اتجاهات الرأي.
وفوق ذلك يعتمد سموه دائماً نهج المصارحة، والمكاشفة في شتى تصريحاته، وأحاديثه الإعلامية، وغير الإعلامية رغم كون موقعه المتقدم في المسؤولية، أو الحكم.. يلزمه بالضرورة أن تكون صراحته متحفظة إلى حد ما حيث ليس كل ما يعلم يقال.. فضلاً عن كون السياسة لها مطالبها في هذه الناحية بالذات!!»
ولعل هذه المقالة باقية ومتداولة إلى يومنا هذا؛ مما يعني أنّ كتابة العمير على هذا النحو من العلاقة الوطيدة فيما بينه وبين الوطن، وبينه وبين مسؤوليه علاقة مشافهة، وصادقة تحمل معولًا للبناء بأدوات الإعلام وليست أدوات للهدم لا بالفكر ولا بالكتابة، وعاش طوال مسيرته الكتابية على هذا المنوال. ولعل ما أكسبه من مناوشات كثيرة في مسيرته بين جموع غفيرة من الشعراء، والمثقفين، والنبلاء بجميع أنحاء العالم هي دقته في توصيف مشكلة الشاعر في شعره، والناقد في نقده، والصحفي في صحافته، ومع كل هذا كان يستمر في رؤاه ومتقادم في تصفيف كل ما يقع تحت نظره لتحويله إلى حلقة نقدية على صورة مقال، أو فكرة بنائية على حروف الأمل والتمني بأن يكون أو يتحقق.
ولو عدنا إلى مقالة أخرى حول هذه المرئيات التي كان يطلقها دون تردد لأمكننا الاستشهاد بما جاء في إحدى مقالته عن الشعر العربي، حيث يقول: «نعم.. نعم. نحن نعرف أن الشعر العربي الصحيح منذ عصره الجاهلي حتى الآن يهتم كثيرًا بمطلع القصيدة حتى ولو كان المطلع مجرد دخول إلى مقدمة غزل، أو بكائية اطلال.. أو وصف ناقة كما هو الشأن في الشعر الجاهلي بخاصة.. أو في الشعر المخضرم.. أو في الشعر الملتزم بمذاهب القدامى!!
في كل ذلك أو غيره وحتى في عصرنا هذا يأتي الاهتمام بمطلع القصيدة في الدرجة الأولى.. ذلك أن المطلع هو في الحقيقة مفتاح القصيدة.. أو مدخلها الذي ندلف منه إلى رحاب القصيدة وأجوائها!!
ودعوني أسترسل هنا فأذكر مجلساً ضمني مع أستاذنا الكبير «عزيز ضياء» وبعض الأصدقاء منذ زمن وكان الحديث عن الشعر حيث فوجئنا بالأستاذ «عزيز» يقول: إن مطالع القصائد العربية، وخاصة في العصر الجاهلي هي مطالع صاخبة تشبه قرع الطبول، وأن ذلك لا يعجبه في الحقيقة!!
فبادرت مستنكراً، وأنا أمسك بطرف حبل الحديث حيث قلت: إنك تعيب يا أستادنا القصيدة بأهم ما فيها، وتنكر ما يثبته فحوى كلامك من غير أن تشعر.. ذلك أن «الصخب» أو «قرع الطبل» أو «الاستفزاز» هو بالضبط ما يريده الشاعر الجاهلي، وهو ما يمكن أن نسميه «شد انتباه السامع أو القارئ» وما تسميه أنت «قرع الطبل» فقد كان الطبل يقرع فعلاً لا لإثارة الطرب فحسب.. بل ربما للبشير أو النذير!!»
هذه المؤكدات على مسيرة وحياة العمير العامرة بالقول والكتابة بعيدًا عن كل النواتج تضعنا أمام تحديات كبرى بعد وفاته أحدها وأهمّها أنه من الضروري إعادة قراءة مسيرته وتقديمها من جديد على الوجه اللائق بشخصية لم تُقدّم جيدًا منذ غيابها عن الساحة، أو تُدرس دراسة شمولية تليق بمسار حياته من جهة، ومسار تجربته الإعلامية والصحفية -تحديدًا- من جهة أخرى، ومسار تركته الإبداعية من جهة ثالثة.
ولعل فترات غيابه استلهمت الكثير في نفوس محبّيه وراح البعض يتساءل بصمت، وآخرون يرفعون الصوت الثقافي بحثًا عنه وعن أسباب غيابه المفاجئ ا لذي استمر طويلًا ليلغي هذه الفجائية.. تلك التسؤالات رسمها الشاعر منصور دماس مذكور في مقالة له بعنوان: «أين العمير» والذي قال في مطلعها: لو قيل لي قبل ما يقارب أربعين عاماً - وهو الوقت الذي بدأ فيه عشق الحرف يملأ فراغي- من تفضل من كتاب الأعمدة اليومية؟ لقلت الأستاذ علي محمد العمير ولو سئلتُ قبل كتابتي هذه عن كاتب أصبح إسهامه الثقافي متقطِّعًا وأرجو استمراره بدون عوائق لأجبت الأستاذ علي محمد العمير».. ويتابع قوله شعرًا:
«قطفنا من حدائقه كثيرا
أشئناه لطيفاً أم مثيرا؟
وما زلنا نتوق له ونرجو
له عمراً يطول لنستنيرا
(أبا يزنٍ) عليك عليك حتى
نرى ساحاتكم تحوي العميرا
عن الماضي جزيتم ألف خيرٍ
وللآتي لكم شكراً كثيرا»
وأمام هذا السؤال الكبير الذي طرحه مذكور في مقالته لا يسعنا إلا أن نضعه أمام ما كتبه عنه الأستاذ محمد القشعمي بمقالة يسرد فيها علاقته بالعمير، وكيف تعرف عليه وأين توقفت هذه السيرة العطرة ولربما ما ذكره الأستاذ القشعمي عن تغيرات حياة العمير هي التي سارت عليها حياته، تحسنت وتطورت واستمرت بين هذا وذاك حتى وافاه الأجل يقول القشعمي عن العمير: «استقال عام 1396هـ/ 1976م ليتفرغ لأعماله الخاصة وليفتتح (دار العمير للثقافة والنشر عام 1400هـ/ 1980م، مع استمراره بنشر مقالات يومية في جريدتي عكاظ، ثم الشرق الأوسط، ومجلة المجلة لمدة عامين، بعدها بدأ المرض الغريب يغزوه، ولم ينفع معه علاج، فطلب منه ناشر جريدة الشرق الأوسط هشام حافظ المجيء للندن للبحث عن علاج، وقال إن هناك طبيباً عالمياً مشهوراً اكتشف أن هناك فتحة صغيرة في الجمجمة لا ترى إلا بمكبر دقيق، وهذا الذي يسبب النوم المتواصل أو شبه النوم، وهو أن يبقى مفتح العينين بين النائم والمستيقظ، فيقول إنه لم ينفع معه العلاج، ولم يبق لديه سوى سائق وخادمة تعتني به وتدير منزله، فإذا استيقظ وجد الصحف والمجلات متراكمة إلى جواره بدأ يقرأ ويتابع الأخبار، ويجد الخادم وقد أحضر له كأس الحليب وقطع الخبز الناشف، وقد تعود على هذه الحياة».
فوداعًا لهذه السكة الطويلة التي بدأت شامخةً صامدةً مهاجرةً وانتهت مستقرةً عند رحمة الرحمين؛ وإن الله لأرحم بعباده من عباده.
- علي العمير كما عرفناه