رمضان جريدي العنزي
في عتمة الستينيات والسبعينيات، زمن المد الاشتراكي والقومي والقطري، وأوهام الكبرياء والغطرسة العربية علينا نحن دول الخليج العربي، كانوا يصفوننا بإذاعاتهم وصحفهم ورواياتهم وأشعارهم وصالوناتهم ومنابرهم بالرجعية والتخلف، وبأننا مجرد بدو رحل، أصحاب نوق، نسكن الخيام وبيوت الشعر، عملنا فقط رعي الإبل والماشية، والبحث عن الكلأ والماء، والغزو والقتل والاقتتال، كانوا يتباهون علينا بأنهم أصحاب فكر ورأي ولهم عقول خارقة، وبأنهم الصفوة وأهل التميز، وأنهم يملكون المنبر والبندقية والراية، ولهم أهداف تحريرية وتقدمية، نعجز أن نجاريهم فيها، وكانوا يشنون علينا إرهابهم الإعلامي الشرس البغيض محاولة منهم لإلغاء وجودنا وإرثنا وتاريخنا، وتحريرنا من الخرافة والجهل والفقر كما يزعمون ويتوهمون ويتخيلون، وما علموا بأننا محطات مضيئة، أكثر سطوعاً وتوهجاً منهم، وإننا باقون رغم كل الحقد الأسود المخبوء في صدورهم، والظاهر على ألسنتهم، لقد آذونا طويلاً، وتربصوا بنا كثيراً، كنا نسمع لهم ونحذر منهم، لكننا لا نبالي لهم، وفي زمن قليل، تقدمنا عليهم بسرعة على شكل رصاصة، وانطلقنا نحو المدارات كلها ونحو الفضاء، صارت لنا هيبة وحشمة ووقار، ويحسب لنا ألف حساب، صار لنا القول، وصار لنا القرار، قفزنا بطرفة عين من القاع إلى القمة، استغلينا مواردنا الطبيعية أحسن استغلال، بنينا المدن الكبيرة، وشققنا الطرق الواسعة، أنبتنا الزرع وحصدناه بمناجل الثقة، حولنا صحارينا القاحلة إلى عناقيد ضوء، مطاراتنا أصبحت عالمية، وموانينا صارت منارات مغايرة، وشواطئنا آخذة بالحسن والجمال، ومقدساتنا تحف في فن العمارة والإبداع، أصبحنا ضمن مجموعة العشرين الأقوى اقتصادياً في العالم، قدراتنا الاقتصادية والصناعية معروفة، وطاقاتنا الكهربائية تضيء العالم بأكمله، أمننا عالٍ، وأماننا مضرب مثل، عيشنا رغيد، وكل شيء عندنا سهل ويسير وفي متناول يدنا، حافظنا على أسلوبنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، وتمسكنا بمنهج حياتنا القويم الذي يقوم على العلاقات الاجتماعية المتميزة، القائمة على الأعراف والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، ما عندنا نظرة فردية للعالم والحياة، ونتميز بالبساطة والسلوكيات والأفعال الحميدة، نمقت الغل والحقد والحسد، ونمد أيدينا لكل من يريد مصافحتنا، لا نغدر ولا نجحد ولا نخون، ووفاؤنا عالٍ لكل أحد، وعندنا عدل ومساواة، صرنا مثقفين وعلماء وأطباء ومخترعينوأصحاب مشاريع جبارة، ما عندنا تكلس ولا انحسار، عقولنا منفتحة، وأفكارنا نيرة، وما عندنا تراكمات نفسية معقدة، ولا أفكار مجنونة، وتطورنا رسخ واقع حالنا، وبنى مجتمعنا، روابطنا البينية أخوية، وموازيننا في كل القضايا عادلة، وابتساماتنا صادقة، وغضبنا إذا ما غضبنا واضح وجلي، ما عندنا دسائس ولا مناكفات، ولا هذيان، واصطفافنا مع بعضنا مثل الحبل المتين، والصخر الصلد، مشاريعنا دائماً ناجحة، ونكره التقهقر والفشل، كانوا يصفوننا دائماً بالرجعية وهم التقدمية، حتى أصبحوا هم أهل الرجعية وصرنا نحن أهل التقدمية ثباتاً وعنواناً وحقيقة، نذهب لهم للتفرج والسياحة، ويأتون لنا للبحث عن العمل وطلب الرزق، ويصطفون زرافات أما سفاراتنا وقنصلياتنا من أجل الحصول على تأشيرة عمل، نتباهى بذلك، ونعتبره خاصية مغايرة تغيظ الأعداء والمنافقين والذين في قلوبهم حقد وحسد ومرض، لقد صنعنا لبلداننا كل شيء، ولم يصنعوا لبلدانهم سوى الوهم والشعارات الزائفة والردح الإعلامي الممل والبهت والزيف والعنتريات الكاذبة، حتى أنهم لا يستطيعون حتى إزالة النفايات عن ضواحيهم التي لا تزيد مساحتها على مساحة ضاحية لبن عندنا، وحتى أنهارهم صارت هدراً وضياعاً وعطشاً، وأراضيهم صارت خوفاً وقلة أمن ومتاهة، واستباحهم الهرج والمرج والدم والقتل، وأصبحت المناكفة والعداوة بينهم متشعبة وعظيمة، والاختلافات بينهم كبيرة، لقد سبقناهم بمراحل كبيرة، ومسافات طويلة، لا يمكنهم أن يلحقوا بنا مطلقاً مهما حاولوا وفعلوا، وهم الذين حاولوا طويلاً وأدنا وإطفاءنا، لقد تقدمنا طويلاً، وتخلفوا كثيراً، لقد تسيد حقنا على باطلهم، لم يكن عندنا فصام، ولا عندنا نقيض، ولا ازدواجية أو تناقض، ولا اعتداد زائف، وفرقعة كلام، وتنظير أجوف، وإنما أحسنا التوفيق بين حاضرنا وماضينا حتى صارت ملامحنا واضحة، وملامحهم صارت معتمة، لأننا رفدنا إخلاصنا بوعينا، وقولنا بعملنا، لهذا صارت شمسنا دائماً مشرقة، وشمسهم دائماً غائبة، لقد عملنا بجد وتأنٍّ وصبر ومازلنا، وتركنا لهم التنظير الممل والكلام والشعارات الزائفة.