حاوره - سام الغباري:
كانت مهمة مستحيلة..
على مدى أشهر طوال، كان رأيي أن يتحدث الفريق «علي محسن صالح» إلى الناس بما ينبغي إجابته من الأسئلة الصعبة المثارة، فهو الجنرال الأكثر إثارة للجدل في اليمن، والأكثر عرضة للاتهام، حتى الذي يستدعيه غضبه للتدوين في وسائل التواصل الاجتماعي لا يجد حركة وإثارة إن لم يوجه غضبه وسخطه نحو هذا الرجل.
ولد «علي محسن» في 1945م، ولما كان يرتفع في صلاة الظهر من السجود إلى القيام، لم يتكئ على كفيه كما فعلت، وأنا أصغر منه بـ35 عامًا، حيويته الجسدية مذهلة، حضوره الذهني متقد، وتجربته العميقة لأعقد مشاكل اليمن تمنحه دومًا تلك الحاجة التي تجبر المهتمين على الاستماع إليه. حذّر من داخل صنعاء من نوايا الحوثيين لاحتلالها، وهوّن الإعلام المحلي، ومنظمات المجتمع المدني، واليساريون الذين قرؤوا الكثير من الكتب القديمة من تحذيره، وجعلوها «أحقادًا شخصية»!، كان صمته في تلك اللحظات الكبرى، والأيام العصيبة مثيرًا لشهية الإعلام المتآمر. العسكرية التي دارت حولها حياته شكّلت هذا الصمت، ومع اقترابه من السياسة العلنية في أول ساعات بيانه لـ»حماية المحتجين»، لم يتخل عن صمته، ولما احتل الحوثيون العاصمة فعلًا، كان يقاتل بصمت.
اسمه وصفته هكذا: الفريق الركن: علي محسن الأحمر - نائب الرئيس اليمني، ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة اليمنية, ليس له لقب باذخ، كالزعيم أو القائد، أحيانًا يوصف بـ»الفندم» وهي مفردة تركية EFENDIM وتعني «السيد»، درج الجيش اليمني على استعمالها في مخاطبة قادته.
هذه المرة، كنت بمطار الملك خالد، أستقبل صديقًا جاء لتوه من عاصمة الضباب لندن، جئته مرغمًا، وكنت ممددًا على سرير المرض، لزمتني حمى طارئة، ودهمني إعصار من العرق، واحتقان جاف في الأنف والحنجرة، كان الهواء يدخل ويخرج إلى رئتيّ جافًا مثل ريح الصحراء، وعند ظهيرة الأربعاء الماضي قادني هذا الصديق إلى حيّ السفارات، كان ضيفًا على سفير اليمن لدى الرياض، تركته عند بابه ومضيت أسأل عن نائب الرئيس اليمني، وتلمست طريقًا مفاجئًا للسلام عليه بعد طول غياب، فسُمِح لي. دُرت دورتين أو ثلاثًا، وتجاوزت جادتين، وفي أقل من عشر دقائق كنت أطفئ محرك سيارتي بمرآب مجاور لمقر إقامته المؤقت في العاصمة السعودية الرياض.
استقبلني «محمد المسعودي» المرافق الشخصي الأشد إخلاصًا له، وطفق - كعادته - يجر ضحكات متقطعة بينما نتحدث عن أحوال عادية، اجتزنا المنزل الداخلي الأول، ودرنا حول مسبح أرضي مرصع بحجارة زرقاء، وصولًا إلى المبنى الذي يسكن بداخله الفريق محسن، وقد ألفيته لدى الباب الرئيسي وخلفه يظهر مدير مكتبه الدكتور إبراهيم الشامي، وسألته ضاحكًا من بعيد عن طريقته المفضلة في المصافحة. ملت برأسي إلى اليمين قليلًا وأردفت: إنه زمن كورونا. ومد يده هازئًا يدعوني للاقتراب، ثم تصافحنا، وجلسنا حول منضدة مصنوعة من سعف النخل، كان الظلال يحيط بتلك البقعة الهادئة، وحفيف أشجار «البوتس» المتسلقة يضفي بهاءه الرطب على جو الظهيرة الذي بدأت حرارته بالتراجع مع اقتراب فصل الشتاء.
ولم أشأ أن أبدو جادًا في الدقائق الأولى، تجاوزنا التحايا الصغيرة، وطفقت أسرد مواقف طريفة صادفتها على طريق عودتي من البحرين إلى الرياض، لا أتذكر كيف وصلنا لذلك، ولكنه كان مستمعًا جيدًا، وعلى شفتيه ابتسامة هادئة، ثم تراجعت، كبحت جموحي الدائم بالكلام، وتركته يسأل، وكنت أجيب. ثم أدرت السؤال الأول: ما الذي جعلك جمهوريًا صلبًا هكذا؟
لحظة.. لا، ليس سؤالًا في حوار، بل دردشة استمع فيها لصوته من الداخل، أردت أن يحادثني كصديق، وأن أكسب ثقته، لأكتب دون عدائية مسبقة، وقد طلب في نهاية اليوم تأجيل ذلك، لأحظى بأيام أخرى، وأقوال أوسع، وتفاصيل أكثر بيانًا عن مواقف تبدو غامضة، فيفسرها بصفته الشاهد أو الفاعل، ولم أستجب، كتبت دون تحيز، ضده أو معه.
وقد رد على سؤالي المصلوب أعلاه، قائلًا: كل من شهد يومًا من أيام الإمامة قبل سبتمبر 1962م لم يجد بُدًا من اكتساء صلابة المقاوم الشرس في مواجهة أي محاولة لإعادة هؤلاء إلى السلطة. ورمقني بعينين واسعتين، منبهًا بكف مفتوحة: هؤلاء ليسوا حكامًا أو أئمة.
وسألته: فما بال الذين رأيناهم جمهوريين ثم ساروا إلى الحوثي مثل قطعان تائهة؟ وأجاب: هي العقيدة! وزويت حاجبيّ متسائلًا، فأضاف: عقيدة الحرية والإيمان بأنك إنسان لك حقوقك وآدميتك، فهناك من يقول إنه جمهوري ثم يتبعها بانتمائه إلى الإمامة! وشدد على عبارته قائلًا: ضدان لا يلتقيان الإنسانية والإمامة.
هل هذا عداء مذهبي؟ لم أسأله ذلك، لأنه رأيي أيضًا. مثلت الزيدية الهادوية في اليمن قمة الإرهاب الفكري المسلح، فقد تناوب أئمتهم على ذبح اليمانيين في جرائم بشعة وجماعية، كانت كل أفعالهم ضد الإنسانية، بأيدٍ «فارسية» متحمسة للقتل والإبادة، مآس أرهقت أجيالًا متعاقبة من أسلافنا، ومن حسن حظنا اليوم أو سوئه أن تلك المذابح دُوِنت بفخر في كتبهم وبأقلامهم، وكأنها مآثر خالدة!
وماذا أيضًا؟ هذا هو الحوثي يسير على نهج أسلافه، وبذات اليد الفارسية المغلولة إثمًا تاريخيًا في ذبح اليمانيين، وأشار «محسن» إلى حرب ثوار 26 سبتمبر 1962م مع الجانب الإمامي قائلًا: لم تكن تلك حربًا عقدية، بل سياسية، أما حربنا اليوم فإنها خليط من العقدية والإنسانية والوجودية. وأعاد ظهره إلى الوراء قليلًا، كمن يريد أن يختم جملة مفيدة: إن ما نواجهه يندرج في إطار «عسكرة الحوثي للمذهب»، وعولمة الهادوية الزيدية والاثنى عشرية بخلطتها الجديدة التي أنتجها «خميني» تحت مسمى «ولاية الفقيه»، وما يواجهه كل بلد تصل إليه إيران الخمينية إنما هو نسخة أكثر دموية عما واجهناه في اليمن طول قرون سابقة، ولم يشد انتباه أحد.
كنت أتفهم حديثه بهزات راضية من رأسي، ثم حسبته يتململ، لكنه وقف، ووقفت معه، درنا حول حديقة منزله الصغيرة، تشدني أطراف كلام عابر عن سيرته القديمة، أشار «الفندم» إلى مشاركته في هزيمة الميليشيا الإمامية التي حاصرت صنعاء سبعين يومًا قبل 53 عامًا، وقتذاك، كان جنديًا بكتيبة المشاة متنقلًا في مناطق تسمى «الجرداء، وأرتل، وبيت بوس»، سألته: هل كان «علي عبدالله صالح» معك؟
لا، كان في كتيبة أخرى، المدرعات.
هل شارك حقًا في المعركة كما يقال، فهناك من شكك بذلك؟!
نعم، شارك بقوة وفاعلية
من كان قائدك المباشر؟
العميد علي عبدالله العرار، ونائبه اللواء الراحل محمد عبدالله صالح -رحمهما الله- الذي أصبح قائدًا لقوات الأمن المركزي.
ورغبت أن أسأله عن «طارق» نجل قائده الأول، إلا أن شابًا نحيلًا ظهر من ضلفة الباب الخشبي فجأة، أشار بكفه إلى الداخل، قائلًا: الغداء جاهز!
تقدمت برفقة مدير مكتبه، وقد تجاوزنا «الفريق محسن» قليلًا، وكما جلسنا متحلقين حول طاولة خشبية عتيقة الطراز، تحلقت المأكولات اليمنية المعتادة بتواضع حول «السلتة»، كان الخبز دافئًا مثل مشاعر الذين شاركونا الغداء، إضافة إلى ثلاثتنا أنا والفريق محسن ومدير مكتبه، شاركنا الصديق أحمد أبو سالم -سكرتيره الصحفي- جلس إلى يميني صامتًا، كانت عيناه متوثبتين لحديث إضافي على الغداء لكني شاركته صمتًا متقطعًا، وفي نهاية الوليمة الشهية اكتشفت أن «محسن» يعشق طعام «الفتّة» وهي فتافيت صغيرة من الخبز معجونة بالعسل اليمني، تلك وجبتي المفضلة في الصباح، وأحيانًا اشتهيها بالحليب والسمن، وقد عزفت عنها مؤخرًا حتى أستعيد جزءًا من رشاقة فقدتها مبكرًا.
صعد «نائب الرئيس» إلى غرفته، وبعد نصف ساعة كان قد تهيأ معنًا لصلاة العصر، ثم دعاني إلى مكتبه، وقعدنا نحتسي الشاي، سألته في الرشفة الثانية، كيف كان وقع اغتيال الرئيس السابق علي عبدالله صالح عليك؟ تاهت عيناه في سقيفة المكتب المطرز بدوائر متشابكة، فيما بقي كأس الشاي معلقًا بين أصابعه، قبل أن يجيب: كان علي عبدالله صالح منذ طفولتنا أخًا لي، ولم يمر يوم سيئ عليّ كما يوم اغتياله، كانت فاجعة، وصدمة قاسية، وقد حذرته، أرسلت إليه أربع عشرة نصيحة حال قرر فعلًا خوض الحرب مع الحوثيين، أولها أن ينسحب إلى منطقة حصينة خارج العاصمة، وثانيها ألا يفصح لأحد عن مكانه لأن رأسه أهم ما في المعركة, وثالثها عدم قبول أي واسطة مهما بدت مسالمة لأنها خدعة تريد كشف موقعه والاطلاع على استعداداته، ورابعها أن يتم التواصل بين قيادات المعركة بهواتف محصنة من الاختراق.
سألته مقاطعًا، قبل أن يكمل سرد نصائحه، لماذا لم تتدخلوا عسكريًا لإنقاذه؟ قال بحزن ساخر، قيادات مؤتمر صنعاء كلها طالبتنا بعدم التدخل، كان مبررها أن أي تدخل مباشر من الجيش سيفقد «صالح» زخمًا شعبيًا قد يستفيد الحوثي منه لتأليب الناس عليه خصوصًا إذا وقع خطأ غير متوقع في دقة الضربات الجوية!
إنها خُدعة، سألته مستنكرًا
مع الأسف لقد كانت كذلك، وقد حاولت إيضاح ذلك أكثر من مرة، لكن يبدو أن القرار بعدم التدخل بناء على طلب مباشر ورجاء متصل من قيادات مؤتمر صنعاء قد ألقى بأثره على الأحداث المؤلمة.
هل كان علي عبدالله صالح مع التدخل؟
نعم، لقد طالبني بذلك.
عاتبته محتدًا هذه المرة: كان عليكم إنقاذه!
كان الرأي السائد هو الامتثال لمطالب من هم في الميدان، لمعرفتهم الكاملة بكل ما يدور، على أمل الفوز.
وماذا عن طارق؟
ما به؟
هل تواصلتم معه حينها؟
لا، كان التواصل مع الزعيم عبر شخصية موثوقة ومقربة منه.
والآن هل تتواصلون مع طارق؟
طارق اليوم جزء من المقاومة البطولية المشرفة في مواجهة الحوثيين ومشروعهم العنصري المسيء للفطرة والكرامة والحرية والقيم السوية، ونحن نرحب بكل جهد وكل قدرة وكل بندقية في هذه المعركة التي نخوضها نيابة عن الإنسانية، وذلك ما أكده فخامة الرئيس مرارًا في أكثر من مناسبة.
وابتعدنا عن «صالح» وعائلته، ذهبنا إلى معركة اليوم، سألته وطيف ارتعاشة يسري في جسدي: هل مأرب في خطر؟ كانت خارطة المعارك الدائرة حول عاصمة إقليم سبأ أمامه، خارطة تفصيلية دقيقة باسم المدن والقرى والعزل والمخاليف والطرقات، وعليها الكثير من الإشارات والعلامات الملونة، كان «علي محسن» ينظر إلى غضبي بإشفاق، فأنا كسائر الرأي العام لا أملك معلومة واضحة المعالم، وكل الأخبار التي تأتيني إنما أجتهد للحصول عليها من أصدقاء هناك، كان السؤال ما يزال معلقًا قبل أن يجيب الرجل الذي حشد أغلب المشاهدين للحرب ظنهم باتهامه بالتقصير، قائلًا: التراجع الذي تعرضت له المعركة في مأرب وغيرها ومحاولة إدانة شخص واحد وتحميله مسؤولية ما حدث أمر غير منطقي، لقد قمنا من ناحيتنا بإقالة ستة قادة عسكريين وأحلناهم للتحقيق، ثم ظهر بعضهم في وسائل التواصل لاتهام قيادات في الشرعية بتسليم مديريات بعينها إلى الحوثي، وهذا محض افتراء.
وتركته يتحدث، كنت بحاجة إلى كل حرف وكلمة أنقلها بمسؤوليتها الإيجابية إلى الناس، ليقرؤوا المشهد كما حدث فعلًا، كان «نائب الرئيس اليمني» يتحدث بصدق، وقد لمست تلك الكلمات الحقيقية لا تستطيع إدانتها لأنها شفافة مثل رائحة زكية، في هذه الإجابات الدقيقة لم يبد الرجل تحفظًا أو يطلق تصريحات كارثية كأي سياسي جديد لا يعي عمق الأحداث وارتباطاتها وخطورة الكلمة ووقعها، لكنه «علي محسن» عقود من السلطة، والنفوذ والمعرفة الدقيقة بتفاصيل اليمن، كان كل شيء فيه وحوله له نكهة يمانية لا تخفى، مثل شجرة دم الأخوين، أينما ذَهَبت، وغُرِست، فإن نموها من جديد يشير إلى أرض واحدة لا سواها، إلى اليمن.
قال لي: إن الدولة حين تسقط، وفي ظل الفضاء الإعلامي المفتوح يصبح من الصعب السيطرة على أمزجة الناس وأطماعهم وتأويلاتهم الفجة، الجميع يريد أن يصبح «رئيسًا»! وندت منه ضحكة ساخرة، كان يتألم، يريد للعقل أن يعود من إجازته الطويلة، قلت له: لن تستطيع إلغاء النفس البشرية ومآلاتها من الغيرة وحب المال، والشهرة، وطلب النفوذ. نظر إلي في سكينة وصمت، ثم أردف هامسًا: للسلطة باب واحد، وأشار إلى صورة معلقة في واجهة مكتبه للرئيس عبدربه منصور هادي، قائلًا: الناس، وذلك يعني الانتخابات، وللوصول إلى هذا الاستحقاق العظيم يجب أن تسقط أوهام أنه حقهم الإلهي. ورفع سبابته منبهًا، وأضاف: ليس لأننا ضد هذا الوهم، بل لأنه ليس نظامًا ولن يكون قانونًا، ولن يقيم دولة، فمن يحتل صنعاء اليوم مجرد عصابة كسائر العصابات التي تحكمت في تلك الجغرافيا قديمًا.
عاد «علي محسن» إلى ذاكرته، بعد أن طرق سؤالي بابها، إذ قلت: لماذا لم يسمعك الناس أو النخب والأحزاب يوم كنت تحذر من احتلال صنعاء، ومعك قلة لم يصغ إليهم أحد؟
لقد أُفرِغ الناس دعائيًا من المواجهة، وكانت سنوات ما قبل 2011 مكرسة للنيل مني، بالشائعة أحيانًا، وبالإعلام الذي أتيحت له كل الحرية، فلم يعد بالإمكان كسب القناعات لأنها تشوشت، وضمائر البعض بيعت بالمال، وكنا على حافة حرب سابعة لم تمكنا من تجميع قواتنا المدربة كما يجب، وهذا ما جعل كل من يقرع أجراس الخطر مجرد رجل مزعج.
وتبسم الرجل قليلًا، وحكى قصة قديمة، ففي عام 1997م، كان برفقة «نائب الرئيس هادي» في لقاء رسمي، وقد أبلغ الحاضرين باختيار شخصية أكاديمية من الحديدة لتولي منصب نائب رئيس الجامعة، فأشار أحد «السُلاليين» باستخفاف إلى الرجل، قائلًا بازدراء: أتختارون هذا التهامي؟! حينها اشتعل «محسن» غضبًا وصاح بصوت هادر: إنها ثورة 26 سبتمبر منحت اليمانيين حق التعليم وساوت بينهم، فلا سيد ولا عبد. فابتلع العنصري لسانه على مضض، وتفاجأ «عبدربه منصور هادي» بتلك الحِدة الصارخة. بعد أعوام طويلة ذكّره الرئيس «هادي» بالموقف قائلًا: لم أكن أفهم لماذا استفزك تعليق ذلك السُلالي، وظننت رد فعلك مبالغًا فيه، لكني اليوم أصبحت واعيًا لهذا الخطر العِرقي الذي يرفض انتماءه لليمن، وأكثر إدراكًا لما واجهته المناطق الشمالية اليمنية من جور الإمامة وبطشها وأحقادها وعنصريتها.
وأبرقت إلى الفريق «محسن» ملاحظة قرأتها ذات يوم، أسندت ظهري إلى كرسي الخشب ذي القوائم الأربعة، وقلت: السياسة التي تعبث بالثوابت ليست سياسة، بل مكيدة، فمتى شعرت بتلك «السياسة» إبان حروب الدولة مع الميليشيا الحوثية؟
كان كوب الشاي ما يزال بين أصابعه، ارتشف رشفة طويلة، ووضعه على آنية نحاسية مطرزة بحواف ذهبية، وكأنه استسلم للذكريات، فطفق يروي: كنا في طريقنا برفقة الرئيس الراحل إلى السعودية لأداء العمرة، وعرجنا إلى جامع «الهادي» في صعدة، وكانت خطبة جمعة، فصلينا، ثم تفاجئنا عقب الصلاة بأفراد يتشنجون ويصرخون بالصرخة الخمينية، حتى كاد الأمر يتطور إلى اشتباك مسلح بينهم وبين حراسة الرئيس التي شعرت بالخطر الأمني، ثم غادرنا والأسئلة الحائرة تطرق رؤوسنا بقلق مستمر.
وسألته مضطرًا: هنا، هل عرضتم الأمر على القيادة السعودية، وطلبتم مشورتها ودعمها؟ قاطعني بالنفي الحاسم، مشيرًا إلى أن الحوثيين لم يكونوا حينها مشكلة مؤرقة للنظام في صنعاء حتى نُقلق الإخوة في المملكة بهم.
وعلى سيرة السعودية، سألته: كيف تراهم ويرونك بعد سبع سنوات من اندلاع عاصفة الحزم؟ أجابني وقد اكتسى وجهه جدية لم آلفها طوال هذا اللقاء العابر: نحن معهم، وهم معنا، دماؤنا ودمائهم نزفت على أرض المعركة في تضحية واحدة، وهدف واحد، وقضية لا تعرف الهزيمة، وشدد على عبارته بالنصح ونقل ما يلزم إلى كل من له قلم في اليمن أن يلتزموا العهد المسؤول بالتحالف الذي نشأ على أنبل معركة في التاريخ المعاصر، فقلب السعودية ويدها البيضاء حاضرة في مختلف المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والإنسانية.
بعد ذلك، رجوته العودة إلى سيرته ووصل ما قُطِع من الذكرى. وعلى شفا شفتيه لاحت ابتسامة رائقة، وقال: حينما وصلنا إلى صنعاء كان الرأي باستدعاء حسين الحوثي، لكنه رفض، وكرر رفضه ومماطلته، وكأنه شعر بانكشاف أمره مبكرًا، صدرت التوجيهات بتحريك قوة أمنية وعسكرية لمتابعته، إلا أن عناصر حسين الحوثي نصبت كمينًا لقوة أمنية كان على رأسها محافظ صعدة، فيما قتل في نفس الليلة 14 جندياً وهم آمنون بداخل مدرسة «الزبير بن العوام» في منطقة «بني سعد» أسفل جبل مران، ومن هناك بدأت سلسلة الأحداث التي استدعت تدخل الجيش.
عقب الهزيمة الشاملة التي تعرض لها حسين الحوثي، وانتهت بمقتله، جُمعت عائلة بدر الدين الحوثي ولفيف من مقاتليهم إلى صنعاء، إلا عبدالملك الحوثي الذي كان حينها صغيرًا ولجأ إلى عائلة أخواله. في ذلك الوقت طلب بدر الدين الحوثي طلبًا غريبًا، قال إنه إذا أُلزِم بالبقاء خارج صعدة فليكن في منطقة «سنحان» أو «بني حشيش»؟
أضفت معلومة أدركها الفريق «محسن» وقتذاك، وتعامل معها بحذر وقلق بالغين، قلت: لأن سنحان وبني حشيش كانت تعج بالخلايا النائمة المتشيعة للحوثيين.
طرقع أصبعيه مشيرًا بسبابته إليّ: بالضبط، وفجأة تسلل «بدر الدين» إلى صعدة، وأعلن الحرب، فتجددت المعركة، وهزمناهم شر هزيمة، وقُتِل «بدر الدين» في تلك المعركة!
كانت معلومة جديدة ومثيرة، وسألته منفعلًا: هل حقًا مات في الحرب الثانية؟
أجابني بحسم: نعم، كما أكدت لنا الأجهزة الأمنية وقتذاك، لكن الحوثيين لم يعلنوا عن مصرعه إلا بعد أعوام، كانت معركة قوية لم نمهل الحوثيين ليعدوا العدة في مواجهة الدولة، حتى حوصر من بقي منهم وكانوا قرابة عشرين شخصًا وبينهم «عبدالملك الحوثي» على حدود سد مائي يقال له «سد نجران»، في نهايته تبدأ حدود اليمن مع السعودية، وكلفنا كتيبتين من الحرس الجمهوري والفرقة الأولى مدرع لمداهمة موقعهم والقبض عليهم. في تلك اللحظة، جاءت الأوامر بالانسحاب وتركهم في حال سبيلهم! ثم أطرق رأسه بأسف: حينها أدركت أن المعركة دخلت دهاليز السياسة، وأُفسِدت المهمة الوطنية الأولى.
هل كانوا كلهم هناك؟
نعم، كل القيادات الذين تراهم اليوم.
وما الذي حمل القيادة السياسية على ذلك؟
خدعهم من كانوا بجوار الرئيس الراحل من السُلاليين الذين انكشفوا على حقيقتهم عقب اغتياله، وجاؤوا برسالة من عبدالملك الحوثي يعلن فيها إيمانه بالجمهورية!
وهل انطلت الحيلة على الرئيس والقيادة كلها؟
حُسن النوايا يا بني خادعة حين لا يفقه المسؤول تاريخ هذه العصابة وأسلافهم المجرمين، يقع في فخ استكانتهم وولائهم الزائف.
بلى، هو ذلك، لكن وقد مر هذا كله، وصرنا في حال يموت فيه اليمانيون بين سجين وقتيل وجائع وشريد، أين صنعاء اليوم؟ هل تراها بعدت؟
هب الرجل السبعيني من قعدته، مثل فتى زاده السؤال حماسًا، أمسك ذراعي وقادني بلطف إلى النافذة، أشار إلى الشمس التي توارى نصفها خلف أبنية مجاورة، قائلًا: غابت الدولة لكنها لم تمت، وستعود صنعاء مشرقة، ونعود، والعدو مدحور بإذن الله.
هل أنت متفائل؟
متفائل أكثر من أي وقت مضى.
هل أنت مستعد لمساندة أي قوة عسكرية تحرر صنعاء؟
سأكون جنديًا من جنودها.
هل لديك مطامح في الاستمرار بالسلطة بعد التحرير بإذن الله؟
لقد انحزت للناس، وللجمهورية التي دافعنا عنها في صبانا، ولم تغرني المناصب فأتخلى في سبيلها عن قسم الولاء لبلادي وأهلها ودستورها ونظامها، فهل تتوقع أن نتراجع عن مبادئنا وقيمنا اليوم أو حتى بالأمس القريب؟!
سمعت أو قرأت أن الحوثيين عرضوا عليك مناصب كثيرة لقاء البقاء معهم؟
تبسم «الفندم» حتى كاد يغمره ضحك هازئ، عبرتْ نسمة آخر النهار من بين شجرتي نخيل عملاقتين، داعبت أكمام وردتين بلون البنفسج، ودخلت مثل سهم من الشباك المقابل، فانتعش الجنرال وامتلأ حتى آخره بزهو سحري لا يوصف، قال: جاؤوا إليّ في وفدين متتابعين، كانت «صنعاء» تتداعى، الأول من «صالح الوجمان» والثاني من «محمد البخيتي»، وعرضوا مكانة ونفوذًا وجاهًا ومالًا، حتى إذا انتهوا من أباطيلهم، أخذتهم بالقول عن الجمهورية، وكيف ارتضوا لأنفسهم أن يصيروا تابعين لقاء بعض المناصب المسلوبة إرادتها، فأجابوني أني آخر من تبقى، وأن الكل قد سلموا ويمموا شطرهم باتجاه سيدهم. ولكني آثرت جمهوريتي التي صنعت «علي محسن» وعلّمته وجعلته حُرًا في بلد كريم ووسط شعب عظيم لا يقبل الضيم أو الاسترقاق باسم التدين الزائف والعنصرية الفجة.
هل تتمنى لو أنك اتخذت موقفًا آخر؟
الانحياز للجمهورية شرف وفقدان بيتك أو منصبك مقابل النضال شرف أكبر.
ما موقفك من أحداث محاولة اغتيال قيادة الدولة في جامع النهدين؟
يعلم كل من هو حيّ منهم أنني انزعجت كثيرًا، هناك طرف ثالث كان يغذي الصراع ويكسبه دموية، ولا أستبعد مطلقًا أن تكون الخلايا الإمامية الحوثية وراء ذلك.
هل عرف الرئيس الراحل موقفكم؟
نعم، ولكن بعد حين، أدرك أني لست ممن يطعن أخاه في الظهر، وتواصلنا بعد إدراكه ذلك كما كنا قبل الصراعات المؤسفة.
ورغم أن منصبه «نائبًا للقائد الأعلى للقوات المسلحة» موقع غير تنفيذي منذ بدايته، إلا أن دأبه المعهود، لا ينفك عن متابعة المعارك على الأرض. قَطَعت حديثنا اتصالات مكررة من قيادة الجيش، وزير الدفاع اتصل مرتين، ورئيس الأركان ثلاث مرات، وكان في حديثه معي، يذكر أمرًا فيبلغ مدير مكتبه مهاتفة أحد القادة الميدانيين، ثم يعود إليّ.
* سألته مُشفقًا في هدأة الحديث من الرنين: أهكذا كل يوم؟!
- وكل ساعة يا بُني!، نحن لا نحارب الحوثي وميليشياته، بل نحارب النظام الإيراني وجهًا لوجه، كل الخطط العسكرية يُشرف عليها خبراء الحرس الثوري الإيراني الذين تكاثرت أعدادهم عقب احتلال صنعاء في 2014، والأسلحة المتعددة يتزودون بها بلا انقطاع، عبر ممرات تهريب واسعة، ومنها مينائا الصليف والحديدة، ويُدفع لها من نفط الشعب الإيراني، وتُشترى من كل بلد مستعد لبيع الأسلحة.
رن الهاتف مجددًا، كان الاتصال من قائد معسكر على حدود مأرب، ألقى عليه التحية، ثم أنصت للمستجدات، وشرح تضاريس وأسماء المواقع الحاكمة، وعلت وجهه ابتسامة رضى مع ابلاغه بانكسار هجوم عنيف شنّه الحوثيون على المعسكر، تكبدوا خلاله عشرات القتلى وخسائر كبيرة في العتاد، ولم يكد يُنهي الاتصال، حتى جاء آخر من مديرية «الجوبة» فعمد إلى حثهم على تثبيت المواقع فيها وفي كل جبهات جنوب مأرب التي كانت تشهد أيضًا معارك عنيفة بلا توقف.
سألته في غمرة سكون مفاجئ: كأنك حوّلت مكتبك إلى غرفة عمليات؟، لم يبتسم، كأن عينيه تقرآن في الفراغ أشياءً لا تُرى، وعرفت أنه يتمتم بالاستغفار، أصابعه تُحرك حبات سِبحة مخفية وراء عجيزته، بعد برهة قال: تقريبًا، ثم سكت، وبادرني بحديث لم أسأل عنه، قال: حتى غذاء الجنود نتابعه يوميًا، ونتلقى تعليمات من مكتب القائد الأعلى - الرئيس - وننقلها إلى العمليات باستمرار.
* حاولت الميل به باتجاه الجنوب اليمني، قلت: ماذا عن اتفاق الرياض؟
- شبك كفيه تحت ذقنه، وتقدم صوبي بجدية، ثم قال: أي خلاف مع أي مكون سياسي أو عسكري بما فيها إخوتنا في المجلس الانتقالي يظل على طبيعته السياسية وإن اتخذ شكلًا من أشكال المطامح بالسلطة، إلا مواجهتنا العدو الحوثي فإنها حرب وجودية لليمنيين، لا سبيل معها إلا النصر. ثم استعاد جلسته الأولى، واتكأ إلى قائمة كرسيه، مضيفًا: لقد خلق اتفاق الرياض بجهود أشقائنا المخلصين في المملكة العربية السعودية فرصة مثمرة للشراكة السياسية ومن المهم أن تنفذ كل بنوده لتحسين قدرتنا معًا في إزاحة أهم خطر يتهدد بقاءنا وكينونتنا وأحلامنا ومستقبلنا، ومن جهتنا في الحكومة الشرعية فلن ندخر جهدًا في انجاح الاتفاق.
* قاطعته متعجلًا: فمتى تطبيقه بالكامل؟
- الصبر، والحث على التقارب، وإزالة الشكوك، وتفسير أي التباس طارئ، عوامل مهمة نتقدم فيها كل فترة، حتى نصل إلى التطبيق الكامل بإذن الله ثم بجهود أشقائنا في المملكة العربية السعودية، ومن هنا فإننا ندعو كل القوى الوطنية للمشاركة الفاعلة في صد الميليشيا الكهنوتية سواء في مأرب أو غيرها، ونرحب بأي دعوة أو مبادرة أو مشاركة في هذا الاتجاه.
كان المغرب يقترب، والظلمة تقهر ضياء الشمس المتوارية من بعيد، وجاء صوت مدير مكتبه يسبق كفًا تمسك سماعة الهاتف، همس: انه سلطان العرادة. التقط الفريق محسن الهاتف بسرعة، أنصت إليه جيدًا، وتبادل معه عبارات متقطعة، على نحو «نعم، تمام، أبشر، الآن أكلمهم» ثم مال على مدير مكتبه يسأله عن مشكلة متعلقة بالإمداد، ووعد بحلها على الفور.
فاجأني صوت مؤذن المسجد القريب برفع أذان صلاة المغرب، وكان ثمة قادة عسكريون يتهيؤون لمقابلته وتكليفهم بمهام ميدانية. أدركت حينها أني أطلت البقاء، ولم أكن قد ارتويت بعد، كنت مُثقلًا بمئات الأسئلة، قلت مهزومًا: لم أنته بعد!، ربت على كتفي بسعادة، مرددًا: سنكمل قريبًا، ومضينا إلى دربين مختلفين، صعد السلالم، وغادرت من ضلفة الباب الخشبي الضخم.
في الفناء حانت مني التفاتة إلى أعلى، رأيته على شرفة المبنى يشير بيده مودعًا، وشعرت أنه يصوب كفه باتجاه الجنوب، كأنه يشير إلى صنعاء، وقد عقد كفيه إلى صدره بامتنان وتهذب.
اعتدلت في وقفتي، بينما كانت نوافذ المبنى تعكس لمعانًا ذهبيًا مُبهرًا لآخر خيوط شمس ذلك اليوم، ألقيت عليه التحية العسكرية، ومضيت.