رمضان جريدي العنزي
البارحة هبطت ذاكرتي إلى خاصرة الماضي، وذاكرتي دائماً مليئة بالذكريات العتيقة الكثيفة، حيث رائحة المكان والناس والممرات الترابية الضيقة، تدهشني هي الذكريات عندما تأتيني، حيث تفتح لي النفس والنص، البارحة قفزت إلى ذاكرتي مجموعة ضخمة من الأمكنة والذكريات اللذيذة التي جاءت جلها كطيف بهي، دكان عمر الحضرمي، والسوق الشعبي العشوائي، ومخبز التنور، وذاك المقهى الصغير الذي تفوح منه رائحة الريحان والنعناع وصوت النادل النحيل الذي يشبه عود القصب، ورائحة السمك المكشوف، ومنظر البقر وهي تلوك العلف بنهم، وتشرب الماء الآسن المنحدر من مجرى صغير، وفوال اليمني في الزاوية البعيدة من الحي، واستديو التصوير الصغير، وتسجيلات التراث، والدكة الحجرية التي يجتمع عليها كبار السن وقد توسطهم كبيرهم، سرب العصافير وهو يحط في الصباح الباكر على أسلاك الكهرباء، أو تتجمع على مستنقع ماء صغير، مغسلة الملابس والمكواة الحديدة والتي تعمل بطريقة بدائية، والحلاق وكرسية المهترئ والذي أبتاعه من سوق الخردة مع مرآة ليست ناصعة وفيها غبش كثير وشرخ، وذاك العجوز الذي يعيش وحيداً في غرفة طينية متهالكة، لا يزور أحدًا ولا يزوره أحد، كئيب ومنطو ويسرح كثيراً، يعبر الممرات ويتمتم بكلمات تشبه الهذيان، ورفاق كثيرون تفرقوا في فوجوج الحياة، بعضهم حي وملتصق معي، وبعضهم رحل لكنه ما زال ساكناً في القلب وفي الذاكرة، هم صحبتي أرى صورهم ومراسيلهم مرشوشة على جدار الذاكرة، مرسومة ضحكاتهم وقفشاتهم كلوحة فاتنة، أذكر ذلك الرجل الكبير كان حكاء مفوهاً كحكاء المدينة، يرسل لنا ونحن صغار ما تيسر من خزان ذاكرته العجيبة، من طيب الحكي، ولذيذ الطرائف، وبديع اللطائف، وصور التشويق، كنا نستذوق كلامه، ونهرع كل مساء إليه، لا فاصلة بيننا تفصل، ولا خوف يحجر، نسهر معه حتى نتناوش منتصف الليل، مفتاح الحكي معه لا يقفل، ونحن نريده ألا يقفل، تصاويره عجيبة كفلم سينمائي جدير بالمشاهدة والمتابعة، هي الذكريات حين تحط في الذاكرة تصبح كحقائب عدة في يد واحدة، الشارع الترابي النازل إلى السوق من تل مرتفع نمر من خلاله ببعض البيوت والوجوه ونسمع أصوات الباعة والمتسوقين، وصراخ الأطفال الشقاه، و(فرقنا) الذي يشيل فوق رأسه صرة من قماش، ينادي على من يشترى واصفاً بضاعته بالحديثة والجيدة والنادرة، والنساء تناديه لباب الدار، لتشتري منه ما تشتهي وتريد، قماش وحناء وسبح وأساور وأحذية منوعة من بلاستيك، وعربة الكاز الذي يجرها حمار، من أول النهار، لآخر النهار، والملعب الترابي الصغير الذي يتوسط الحي، نلعب به بأقدام حافية، كنا صغاراً نراقب السماء والسحب، عابرون نبحث عن غيمة عابرة، نستظل بالأشجار، ونسمع صوت العصافير، نتسامر، نغسل أرواحنا بالضحك والنكت، نعيش الحياة البسيطة والكينونة ونسائم الوئام، نمتزج بخليط من سراب وحلم وواقع، ننشغل مع بعضنا البعض حتى ننسى ذواتنا، الرياح الباردة والتي كانت تهب علينا نرقص لها فرحاً، ونهتز لها طرباً مثل شجرة يانعة، نركض خلف بعضنا نصعد التلال، نبتهج كثيراً ببعضنا، لا شيء كان يعادل البهجة التي كنا نعيشها، أنا لا أشبع من نفح الذكرى، ولا أنضب من السرد والمسرود، هي سنوات من عمر قد ولت، لكنها تلوح لي كلما جن الليل وتهيأت للنوم، هي عندي مثل مجلد فخم ضخم يصعب قرأته في ليلة واحدة، أنا مع الماضي، والماضي معي كمن يبحث عن دبوس صغير في بركة ماء كبيرة، وفي كثير من الأحيان أفشل في إيجاد قناعة لفهم بأن للعمر محطات يجب التوقف عندها وترك المحطة الفائتة للبحث عن محطة جديدة، حاولت ذلك مراراً، لكنني في كثير من الأحيان أبوء بالفشل الذريع.