يعيش طفل هذا العصر في عالم يبتعد فيه شيئًا فشيئًا عن البيئات الطبيعية ليرتبط أكثر بالأجهزة الإلكترونية التي تشوش مشهد الحياة المحيطة النابضة بمخلوقات حية وبالتالي ثمة انفصال ضمني حاصل للطفل يمنعه عن التعاطف والتراحم مع مجتمع الحيوانات، ولعلنا كثيرًا ما نرى أطفالنا وقد عبروا عن تفاخرهم بالدّوس على خنفساء، أو قطع خيوط عنكبوت، أو صيد فراشة رقيقة ملونة، دون أن يعطوا لعناصر الطبيعة جلالها كمخلوقات أبدعه الله عز وجل، باستثناء الأطفال من ذوي الحيوانات الأليفة التي عاشت في بيوتهم وتعرفوا إلى عوالمها، ومن خلال تجاربهم معها عبروا عن تعاطفٍ عملي، فكيف يمكن استحضار الحيوان في حياة الطفل والتعلم منه وتوظيف كرمز لأعمال طيبة وأفعال إيجابية؟
في هذا المقال نستقرئ قصائد الشاعر السعودي عبدالله الخالد والمولود عام 1953 ميلادي والذي أصدر ديواني شعر تفصلهما مدة تقارب 22عامًا، فكان ديوانه الأول «أناشيد الطفولة» عام 1997، بينما جاء ديوانه الثاني «قمر وقصائد أخرى» عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي عام 2019.
استحضر الشاعر عبدالله الخالد في قصائده عوالم الحيوانات كقصيدة «العصفور الصغير»، و«الضفدعة»، و«الدودة المخدوعة»، و«الوزة المغرورة»، وثمة قصائد أخرى كتبها بأسلوب حواري بين الشاعر والشخصية التي اختارها في قصيدته التي عنونها بـ«فراشة ناطقة»، أو على لسان الشخصية نفسها كما في قصيدة «فراشة وطفلة»، و«جد واجتهاد» التي جاءت على لسان نحلة واستعرض تقريبًا الموضوع نفسه كذلك في قصيدة «النحلة»، وقصيدة «الجرادة»، و«عصفور وطفل».
تغلب على مضامين القصائد السابقة عدد من المعاني الإيجابية المتعلقة بالحيوانات التي كانت موضع اختيار الشاعر وسنتتبّع الرسائل التي سعى لتمريرها إذ تتوزع بين حث على الخير وتنبيه من سلوك سلبي والنهي عنه، وباستعراض تلك المعاني نجده قد اختار النحلة لتكون نموذج النشاط فهي التي تجمع العسل وتجتهد في عملها كي تتقنه:
أطير في الصباح .. لأجمع العسل
من عادتي الكفاح .. والجد والعمل
جناحي القصير .. لا يعرف الملل
وجسمي الصغير .. كم يكره الكسل
وللتأكيد على تشجيع الأطفال لنبذ الكسل واستنهاض الهمم، يوظف النحلة من جديد في قصيدة أخرى ويقول إنها صغيرة وبرغم محدودية قدراتها الجسدية لكنها مثابرة لا تتوقف عن عمل الخير وإنجاز أعمالها كما يسَّرَ الله لها فيقول:
أجمع الشهد لذيًذا كي يحس الآخرون
قيمة السعي ويمضوا دون هون يعملون
هذه الدنيا جهادٌ، فاسْعَ هيا يا صغير
بنشاط واجتهاد داخل الكون الكبير
تقاطعت مفردتا السعي والاجتهاد مع الجد والعمل في القصيدة السابقة، وهذه الدعوة المتكررة تعبر عن احترام الشاعر لهذه المخلوقة المكرّمة، ويقوم الشاعر بالإضاءة على جهدها ودعوة الطفل للتماهي معها مما يعزز قيمة جهدها وإنجازها والاهتمام بالتفكّر في سعيها وعطائها وضرورة تقليدها، فالأطفال هم المستقبل الراعي للأرض ومخلوقاتها، ولا بد من التنبّه لدوره الذي يجعل المستقبل آمنًا من خلال حمايته لها، وكذلك بالتزام الطفل وانضباطه في دوره المباشر لتحقيق البناء والنماء، وتلك الدعوة المستمرة من الشاعر وإيمانه بقيمة العمل الدؤوب تكررت في قصيدته الفراشة، فبالرغم من عمر الفراشة القصير إلا أن الشاعر تبنى صوتها كي تعبر عن أهمية العمل كونه أساس الحياة النشيطة والمُنتجة، يقول في قصيدته «فراشة وطفلة»:
فراشة رقيقة .. أطير في الحقول
كعادتي رشيقة .. لا أعرف الخمول
هيا يا صغيرتي .. نكون أصدقاء
وبسبب النمذجة الإيجابية التي تقدمها الفراشة فإنها تطلب بصراحة أن تظهر لها الطفلة الاحترام اللازم لحمايتها، فسعادة المخلوقات تحقق للإنسان سعادته الخاصة كون الفراشة أيضًا تضفي جانبًا جماليًا في حياة الإنسان برقتها وضعفها كمشابه للطفلة الرقيقة الضعيفة، فالاستقواء على الضعفاء يقلل فرص الحياة ويعزز الضرر وذلك عبر ممارسات بسيطة كانت كقطف زهرة أو عظيمة كتدمير بستان بخيراته الكثيرة:
لا تقتلي فراشة .. أو تقطعي الزهور
حياتنا سعيدة .. لو حاول الإنسان
أن لا يضر زهرة .. أو يتلف البستان
التوظيف المطرد لشخصيات الحيوان نراه أيضًا في شخصية الجرادة التي تتقاطع مع النحلة والفراشة في النشاط والعمل، يقول في قصيدته المعنونة بـ «الجرادة»:
أنا أنا الجرادة .. نشيطة كالعادة
وفي سياق آخر، يأتي توظيف الحيوان في شعر عبدالله الخالد بصوت ناهٍ عن المثالب كما في قصيدة الوزة المغرورة والتي استبدلت سوار من ذهب في كنايةً عن الزينة بما هو سبب حياتها « المنقار»، فلما احتاجت أن تأكل لم تجد ما يعينها على ذلك فكان هلاكها المُحقق، وفي ذلك يرسل الشاعر رسالته للطفل أن يعرف أولوياته والنعم التي أوتِيها فيحفظها ولا يفرط بها مقابل ما هو خدّاع ومؤقت في حياته فيقول:
فباعت المنقار .. لتشتري سوار
تزهو به لساعة .. في ليلة الطرب
إلى أن يُبرز موقف المواجهة عندما جاعت وأرادت أن تأكل فذكروها أن منقارها قد أصبح السوار حتى وصلت إلى نتيجة سبب اختيارها الخاطئ فتموت من غضبها:
أصابها الدوار .. ماتت من الغضب
لم يكتف الشاعر بمواقف الحيوانات المرسلة للمحتوى التربوي التوجيهي للأطفال بل في شعره ما يخبر عن حياة الحيوان وشكله وحياته ونقرأ ذلك في قصيدته «الجرادة»:
أزهو بثوب أخضر .. مطرز بالدرر
أعيش مع صغاري .. آمنة في داري
وآكل الحشيشا .. دومًا كي أعيشا
أعيش مع أسرابي .. أبيض في التراب
ومن طبائعها نقرأ على لسان العصفور قوله في قصيدة «عصفور وطفل»:
أنا لا ارتضي سجني .. ولو قفصًا من الذهب
فأطلقني وحررني .. تجدني دائم الطرب
في الختام يمكن القول إن الخبرات السابقة هي خبرات إثرائية لذهن الطفل وموسعة لخياله بتوصيف بصري بسيط لتمرير أفكار ذات صلة بحياته ومستقبله الشخصي ومحيطه وبيئته.
** **
- د. ريما زهير الكردي