لا ينشغل الشاعر الكويتي «عمر الخالدي» في مجموعته الشعرية المعنونة «هي التي رأت كل شيء» (دار الكيتب - 2021) بتعريف الشعر ولا بتفنيده على طريقة الشعراء في البدايات، ولا يتّخذ موقفاً صريحاً من أيِّ البنى الإيقاعية المعتمدة والمختلَف عليها في الشعر العربي، فنقرأُ مجموعةً شعريةً غنيّةً على صغر حجمها المادّي، فيها قصائدُ من كلِّ الطيف الإيقاعيِّ الشعري، بدءاً من القصيدة بالنثر حسب تسمية «سوزان برنار» وصولاً إلى القصيدة الخليلية الكلاسيكيّة، مروراً بقصيدة التفعيلة التي تبدو الأقرب لذاته، ونراهُ يمسُّ الشعر في كلِّ لونٍ إيقاعيّ بطرق متنوّعة وحساسيةٍ عالية.
المجموعة الشعريّة التي أهداها «إلى التي لا تشرقُ شمسها إلّا في عينيّ، ولا يضيء قمري إلا في عينيها» يبدو أنها تدورُ حول امرأةٍ بعينها، يمكن اكتشافُ بعض أوصافها الشخصية النفسية والجسدية -بصورة أقل- تدريجيّاً من خلال قصائد الديوان، وإن كان كتب في آخر الإهداء «جميع قصائد هذا الديوان إلى أناي العليا» فإني لا أراه يقصد الأنا العليا بالمعنى الفرويدي بقدر ما يصفُ طبيعة العلاقة العالية التي ربطته بهذه المرأة الأيقونة، حيثُ يلتبسُ الروحيُّ بالجسديّ، والمجرّدُ بالحسّي، خلال الحديث عنها.
يؤرّخُ «عمر الخالدي» كلَّ قصيدةٍ يكتبها باليوم والشهر والسنة، كلُّ القصائد كتبت في الفترة الممتدة بين شهري شباط/فبراير ونيسان/أبريل من العام الجاري 2021، عدا القصيدة الأولى -وهي نثرية بعنوان «اخلعي أقراطك أولاً»- يعود تاريخها لشهر آب/أغسطس من العام الماضي 2020، وقد أشارَ هو إلى ذلك من خلال هامشٍ كتب فيه: «جميع قصائد هذا الديوان كتبَت في مناسبةٍ واحدة، إلا هذه القصيدة النثرية. وضعتُها في هذا الديوان وتركتُها تطلُّ على الماضي وحدَها أما بقيّة قصائد هذا الديوان فإنها ليست من الماضي، إنها لا تموت»
ويبدو لي أنها نفس المرأة في باقي القصائد، رغم الفجوة الزمنية، فاللغة التي استخدمها لوصفها ومناجاتها تبدو ذاتَها، لغةٌ مليئةٌ بالإشارات الحسيّة والوصفِ الشاعريّ لتفاصيل محدّدة في المرأة الموضوع، ينطلقُ منها ليعطي بعداً أسطوريّاً للحبيبة، ويتيهُ في حالةٍ تشبهُ وجدَ المتصوّفة وقلق الوجوديّين:
«كيف لسنبلةٍ واحدة أن تضيء كلِّ هذه السهول؟ المدينةُ مظلمةٌ جدّاً وكتفاكِ يلفّهما الضباب كبُرجَي كنيسةٍ مزدحمةٍ بالحرس. كأفقٍ وحيدٍ في هذا العالم.
* * *
لم تكوني يوماً إلّا ملاكاً، ولم يكن قرطاكِ اللذان تلوّحين بهما بسخريةٍ أمام هذا العالم، إلا جناحيك اللذين تطيرين بهما متى شئتِ»
في القصيدة التي يحملُ الديوان عنوانَها «هي التي رأت كلَّ شيء» يعودُ الخالدي إلى الشعر الموزون بوجهه التفعيليّ مختاراً إيقاع الخَبَب¹ المحبّب، فيما يذهبُ بعيداً جدّاً في اللَّبسِ الحسيّ الروحيّ، ويخاطبُ الحبيبة بخطابٍ فوق-بشريّ، يحتملُ التأويلَ الصوفيّ أيضاً، وقد تثيرُ هذه القصيدة الجدل، وقد يستغربُ القارئُ بعضَ صورها ومعانيها، ولكنّها من الجانب الفنيِّ ناضجةٌ ومتجاوزة، تشيرُ منذ البداية إلى أننا نتعاملُ مع شاعرٍ جريءٍ ومندفع، يكسرُ النمط التقليديَّ للقصيدة التي محورُها امرأة.
أمّا في مطلعِ «قصيدة حبٍّ غير مكترثة» فيحلف:
«بالرّملِ أحلفُ
بالمخاض المستحيل
بوجهكِ الممزوج بالأحلام
بالألمِ
إنّي أحبُّكِ دونما سببٍ
* * *
وغداً أحبُّكِ دونما سببٍ
وبعدَ غدٍ أحبّكِ
هكذا أبداً...»
ثمَّ يكرّرُ القسَم بنفس التوالي في آخر القصيدة ليضعها وحدها بلا شريكٍ داخله، والقسمُ بالرملِ إشارةٌ هويّتيّة، رملُ جزيرةِ العرب الحارق، أرضُها التي تمنحُ شعراءها الطابَعَ الساخن والحادَّ أحياناً، والقسمُ بالمخاضِ المستحيل إشارةٌ وجوديّة، والقسمُ بوجهها الممزوجِ بالأحلام إشارةٌ شاعريّة، والقسمُ بالألم إشارةٌ إلى تقديسه، والمعنى في قلب الشاعر.
وقد أرى أن القصيدة المعنونة «هذه تسعة أحبك، والعاشرة سأهمسها في أذنك» أعذب قصائد الديوان وأعلاها شفافية، يؤسّسُ لها بمقطوعةٍ جميلة كُتِبت بخطٍّ صغيرٍ تحت العنوان:
«عليكِ السلام إذا ما انتبهتِ من النوم ليلاً
ولم تلمحيني بقرب يديك
عليكِ السلام إذا ما انتبهتِ لبحة صوتي
ولم تسمعيني بقربِ السريرِ أنادي عليكِ»
ثمَّ يدخلُ القصيدة التي يحبُّ فيها امرأةً «سمراء جدّاً بلون التراب» يصفُها وصفاً حسيّاً حركيّاً دافئاً، نهداها وشعرها وثغرها وحتّى ظفرها، مع لمحةٍ إضافيّةٍ لتقديس الألم، وإشارةٍ خفيّةٍ لعبثيّة هذا الحب العارم، يقول:
«...فردّي إليَّ الحدود
وشدّي عليَّ بقايا القيود
وعرّي بهاءكِ
يقطرُ وجهكِ حلماً
ونهدكِ ليلاً مريعاً
ويبدأُ فصلُ انهمار الضباب
سماءٌ وبرقٌ ونهدٌ ورعدٌ
وخصرٌ يضيء
وهذا العذاب
وأنتِ الأخيرة في ليل قلبي الأخير
وأنتِ الكثيرةُ في ماء عمري القليل
وأنتِ السراب»
بعدها مباشرةً تأتي قصيدةٌ بعنوان «حكاية الرجل الذي فقد قلبه» في مفارقةٍ لافتة بعد كلِّ هذا الحب، القصيدة عموديّةٌ كلاسيكيّة إيقاعيّاً، على البحر الكامل التام، وقافيتها الضاد المفتوحة، وهي قافيةٌ غريبة أجاد عمر الخالدي توظيفها، على أنّهُ على طريقةِ الكلاسيكيين الجدد، لم يلتزم بكتابة البيت على شطرين، بل تركهُ يقفزُ كيف يشاء على الأسطر مع الحفاظ على استقلالية كل بيتٍ كتابيّاً، وقد رأيتُ من النقّاد من يستهجنُ هذه الطريقة في كتابة النص العمودي، ويراها ضرباً من الابتداع والتلوين بغير هدف، وهذا في الغالب خطأ، فالهدف منها لمن يدركهُ هو التعامل مع إيقاع البيت بطريقةٍ مختلفة، تبعاً لطريقة تقسيمه على الأسطر، وعمر مدركٌ لهذا البُعد وملتفتٌ للمساحات الإيقاعية الجديدة، اقرأ معي هذا البيت من القصيدة بصورة الشطرين:
«وبناءُ وهمكَ مذ رفعتَ حجارهُ
فعَلا أفاقَ وحنَّ أن يتقوّضا»
واقرأهُ كما كتبهُ عمر:
«وبناءُ وهمكَ
مذ رفعتَ حجارهُ فعلا
أفاق..
وحنَّ أن يتقوّضا»
يبدُ لكَ ما أشيرُ إليه.
عموماً فالقصيدةُ جميلةٌ متينة، يبدؤها بما يشبهُ مطالع قصائدِ الرثاء:
تقضي الحياة وجلُّ عمركَ ما انقضى
وغداً ستسمعُ دونَ شكٍّ: قد مضى
وهذا متلائمٌ مع العنوان، ويطعّمها بتهويماتٍ تتخذُ طابعاً كئيباً وجوديّاً داكناً:
«والليلُ حقٌّ والحقيقةُ كذبةٌ
والكذبُ ليلٌ والأوابد تُنتضى
وإلى بقايا الرمسِ
يرفعُ ظلمةً هذا الظلام
وأتيهُ كهلاً أبيضا»
ولا يلبثُ أن يتّضح سببُ هذه الكآبة والتيه الوجوديّ في الأبيات الأخيرة:
«قلبانِ
بل جسدانِ
بل كونانِ
ذا يذوي ببطءٍ
إذ بذلك أومضا
ما أغرب الدنيا وأغربنا بها
وإذا الحبيب رأى المحبّة أعرضا
وأقول
كم وأقولها لكنما
تقضي الحياة
وكلُّ عمركَ ما انقضى»
وقبلَ أن أشيرَ لملحقِ الرسائل، الذي ضمّنهُ الخالدي ثلاث رسائل آخرها مؤرخة في شهر تموز/يوليو من هذا العام، أودُّ أن أمرَّ على القصيدة الأخيرةِ في الديوان والمعنونة «النهاية» لشفافيتها، وهذه سمةٌ بارزة في كلِّ قصائد عمر، ولبعضِ العبثِ المشير إلى الخيبة، حيثُ يُدخلُ القارئ إلى معمله بينما يخلقُ قصيدته:
هل تعلمُ
يا من تقرأ هذي الكلمات
بأنّي أكتبها هزلاً
من دون درايةِ شيءٍ عن شيء؟
هه هه هه هه
يا للخيبة
حتى الضحكة من نفس الوزن!»
ليعودُ إلى الجديّة القاسية في النهاية:
«هذي أسخف أشعاري
وإليك العنوان:
والراحلون كأنّهم لا يرحلون»
وكما أسلفت، يرفق عمر الخالدي مجموعته الشعرية بملحقٍ للرسائل ضمّنهُ ثلاثة نصوص تقعُ بين الشعر والرسالة الوجدانية، تبدو كأنها تأريخ لمراحل العلاقة التي جمعته بالتي رأت كل شيء، فمن «أنا الذي لا أعلم أي شيء أقول لك: عوديني عليّ» في الرسالة الأولى إلى «تخيلينا متشابهين تماماً.. لن يكون لأي شيءٍ معنى حينها.. نحن النار التي لا تضيء والضحك الذي لا يصل» في الرسالة الثانية، تنتهي الرسالة الثالثة ومعها المجموعة، بعبارةٍ وداعية تبقي باب الغد مفتوحاً:
«لن يحدُث أي شيءٍ مجدداً ما لم تختاري بنفسك طريقت»نا» في الحياة».
«هي التي رأت كلَّ شيء» مجموعةٌ شعريّةٌ لذيذة لشاعرٍ عذب، أنصح باقتنائها.
¹ بحر الخبب هو البحر المتدارك نفسُه، ولكنَّ «فاعلن /ه//ه» تصبحُ فيه «فعِلُن ///ه» أو «فعْلن /ه/ه» بحذف حركةٍ أو سكون، فيتسارع إيقاعه، وقد وجدتُ أن بعضهم عدّهُ بحراً مستقلّاً، فيما ذهبَ آخرون لاعتبارهِ إيقاعاً من خارج دائرة العروض الخليليّة، وهو شائعٌ جدّاً في قصيدة التفعيلة.
** **
- حسن المقداد