- يأتي حديثي اليوم عن ذكرياتي مع الراحل الكبير الوالد الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن إدريس- رحمه الله- من باب الاعتراف له بالفضل في رعاية موهبتي وتشجيعه لبداياتي في الكتابة والنشر، ووقوفه إلى جانبي موقف الأستاذ الملهم والمحفز طيلة مشواري في الساحة الأدبية.
وسوف أتناول تلك الذكريات على شكل محطات تنقلت خلالها في ظل متابعته ورعايته لكل خطوة خطوتها في هذا الطريق.
المحطة الأولى
بدأ اتصالي الثقافي بابن إدريس عندما كان رئيساًَ لتحرير جريدة الدعوة، وأنا طالب في المرحلة الثانوية بمعهد إمام الدعوة العلمي في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات الهجرية.
- كان مقر المعهد بحي دخنة بالرياض، وكانت مكاتب الجريدة قريبة من مقر المعهد لا يستغرق الوصول إليها أكثر من 5 إلى 10 دقائق سيراً على الأقدام.
- وأتذكر أنني كنت أكتب بعض الخواطر الشعرية والنثرية، وأذهب بها إلى مكتب الجريدة وأسلمها لابن إدريس، وأفاجأ بنشرها في صفحة الشباب التي كان يشرف على تحريرها رجل اسمه علي الغامدي - رحمه الله- وكانت تغمرني مشاعر الغبطة وأنا أرى اسمي وصورتي وخواطري منشورة في الجريدة.
وكنت حريصاً على شراء أعداد الجريدة ومتابعة ما ينشر فيها، وأحرص أكثر ما أحرص على قراءة افتتاحية العدد التي يكتبها رئيس التحرير الأستاذ عبد الله بن إدريس، وكانت تتميز بالجرأة والشفافية في جميع القضايا الأدبية والاجتماعية والسياسية التي يتناولها، وقد استلهمت منها أنا شيئاََ من الجرأة والمصداقية والوضوح في كتاباتي.
المحطة الثانية
كانت في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حين كان الشيخ عبد الله بن إدريس مديراً عاماً لإدارة الثقافة والنشر بالجامعة، وكنت أنا سكرتيراً لإحدى إداراتها.
ففي تلك الأثناء، تطورت أدواتي الكتابية، وأصبحت أنشر مقالاتي وقصائدي في أكثر من مجلة وجريدة وعلى الصفحات الرئيسية.
وقد دارت رحى معركة أدبية بين أنصار الفصحى والشعر الفصيح وبين أنصار الشعر الشعبي، وكان ابن إدريس من أبرز المدافعين عن اللغة العربية إلى جانب آخرين أتذكر منهم الفريق يحيى المعلمي والدكتور مرزوق بن تنباك.
وقد انحزت إلى هذا الفريق، وكنت أصغر المحاربين في خندق الفصحى ضد الشعر الشعبي وأنصاره، ونشرت أكثر من مقالة نالت الاستحسان والإشادة من قبل كبار المسؤولين في الجامعة، ومن ضمن تلك المقالات مقالة نشرتها تحت توقيع (أسير بني الأصفر) بعثتها من إندونيسيا عندما كنت موفداًَ للعمل بمعهد العلوم العربية والإسلامية بجاكرتا، وانتصرتُ فيها لموقف عبد الله بن إدريس ضد موقف الشيخ عبد الله بن خميس المؤيد للشعر العامي - عليهما رحمة الله.
المحطة الثالثة
بعد عودتي من إندونيسيا، كان الشيخ عبد الله بن إدريس رئيساًَ لمجلس إدارة نادي الرياض الأدبي، وعندما زرته في مقر النادي عرض علي العمل في إدارة السكرتارية، وكلّفني بمتابعة ما ينشر في الصفحات والملاحق والمجلات الأدبية والثقافية، وفهرسته وحفظه في ملفات خاصة.
وقد أتاح لي هذا العمل فرصة الاطلاع على ما ينشر في جميع الصحف والمجلات من مواد ثقافية، وأسهم ذلك في متابعتي لكل ما يدور في الساحة.
وأثناء عملي في سكرتارية النادي، كرَّمني الشيخ عبد الله بأن تبنى فكرة قيام النادي بطباعة ونشر مجموعتي الشعرية الأولى (دوائر للحزن والفرح) وتولى كتابة مقدمة المجموعة.
ومن الذكريات التي لا تُنسى في تلك الفترة أنه فاجأني في ليلة تكريم النادي للشيخ حمد الجاسر- رحمه الله- حين أمرني عند اكتمال الحضور بالصعود إلى المسرح لتقديم حفل التكريم.
وحينما استضاف النادي عدداًَ من كبار أساتذة اللغة العربية من خارج المملكة على هامش مؤتمر اللغة العربية المنعقد في رحاب جامعة الإمام، كلّفني الشيخ عبد الله بكتابة قصيدة عن اللغة العربية وإلقائها في ذلك الحفل المهيب الذي كان يحضره أساطين اللغة العربية، وقد وفقت - ولله الحمد- بكتابة قصيدة (السجينة) التي نالت استحسان الجميع، وكانت محوراً رئيساً للكلمة التي ألقاها مدير الجامعة آنذاك معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في ذلك الحفل.
- هذا على المستوى الثقافي، أما على المستوى الشخصي، فقد ارتبطت بالراحل ابن إدريس وبأبنائه الكرام بعلاقة صداقة مبكرة ووطيدة، وكنت أغشى مجلسهم بدون أدنى تردد أو حرج، نظراً لما لمسته وشعرت به من عوامل الود والانسجام والارتياح التي تجمعني بهم، وكنت أحد المداومين على حضور مجلسهم المفتوح بعد صلاة الجمعة.
- وحينما كَرّمَ نادي الرياض الأدبي الشيخ عبد الله، بمناسبة انتهاء فترة رئاسته للنادي، شعرت بالعتب على رئيس وأعضاء مجلس إدارة النادي الجدد، لعدم دعوتي للمشاركة في حفل تكريمه، وسارعت لكتابة قصيدة بهذه المناسبة نشرتها في جريدة الجزيرة، وألقيتها مرتين: الأولى في حفل تكريمه من قبل أسرته الكريمة برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله- حينما كان أميراً لمنطقة الرياض، والمرة الثانية في حفل تكريمه من قبل النادي الفيصلي بحرمة.
- هذه الذكريات تجعلني أدين بالولاء وبالفضل للفقيد الغالي أبي عبد العزيز، وأعترف بأستاذيته، وأحزن لفراقه - رحمه الله رحمةََ واسعة وغفر له وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عني خير الجزاء.
** **
- حمد العسعوس الخالدي