د. شاهر النهاري
سادت وبادت كثير من اللغات البشرية في العصور الغابرة، وتوالت المحاولات لتثبيت لغة، ومسح لغة أخرى، حتى أننا في عصرنا هذا نجد آلاف اللغات على وجه الأرض، تعاني أكثرها من المزج، والتعارض، والخلخلة، ومن الإحلال، ولا يقف بشكل شبه ثابت إلا اللغة التي تمتلك الأبجديات، والمنطوقة والمكتوبة، وهي تقع في حوالي مئتي لغة، بينما تظل اللغات التي لا تمتلك الحرف، أقرب للزوال، والبقاء فقط على شكل تواتر بالغيب، وحكاوى، تذبل، وتزول مع رياح الزمن.
وكل ذلك يحدث بتأثير الإنسان، في تجارته، وحروبه، وسياسته، ومختلف علاقاته مع البشرية، فيتم التغيير بطيئاً، عسيراً، وبدون أن يكون له خطة محكمة نافذة.
لغات عديدة لم تعد موجودة إلا على رفوف المتاحف، مثل اللغة الأشورية والنبطية، واللغة الهيروغليفية المصرية القديمة، التي ضاعت كليا بانقطاع الاستمرارية وبما يدل على وباء عظيم قطع الأنفاس والحرف والصوت، وقبل أن يتم إعادة اكتشافها من خلال اكتشاف حجر رشيد، وبجهود العالم الفرنسي شامبليون، سنة 1880م.
وقد حاول كثير من علماء علوم الإنسان والمجتمعات، والفلسفة، والألسن في أزمنة تواريخ عديدة اختراع لغة أو أبجدية جديدة لأغراض قومية أو أيدلوجية أو تجريبية أو فلسفية مختلفة.
وفشلت أكثر تلك المحاولات، كون البشر مخلوقون من اختلاف، في الثقافة والأيدلوجيا وطرق التفكير، والتعبير، واتباع الحرية، وعدم الخنوع للسلطة والقوة، ما يجعل شطب لغة قديمة من مخيلة الشعوب شبه مستحيلة حينما يعتمد ذلك على فعل فاعل، أو ضربة سريعة قاصمة، تجبر الألسن جميعا على هجر اللغة الأم والاجتماع على لسان واحد جديد.
وقد تكون محاولة الأديب ميروب مشدوتس (361-441) بابتكار أبجديتين (أرمينيا، وجورجيا)، محاولة فذة، فما زالت تلك اللغة تستعمل هناك حتى اليوم، ولكنها عجزت عن التقدم أكثر، وعبور الحدود الضيقة.
وتعاقبت بعد ذلك المحاولات، فكانت لغة (الاسبرانتو)، ((Esperanto، وهي لغة مصطنعة بالكامل اخترعها (لودفيغ أليعزر زامنهوف)، کمشروع لغة اتصال دولية سهلة عام 1887م، وهي تحوير وتغيير معجمي للغات الأوربية الرئيسية، فظهرت قريبة نسبيا من اللغة السلافية، ومتصلة بالعبرية الحديثة.
وقد بذلت المنظمة العالمية المحتضنة لتلك اللغة جهودا عظيمة في حينها لنشرها وتوطينها، عن طريق عقد المؤتمرات، وإرسال المواد التعليمية المجانية للراغبين بتعلمها، إلا أنها لم تنجح في العالم العربي، فاللغة ليست مجرد ثوب نخلعه متى ما شئنا، ولا نرتديه إلا عبر حياكة أجيال متعاقبة.
واستمرت المحاولات، فكان من بين العرب من أراد توحيد الأبجديات، وتعميم الحروف اللاتينية في الكتابة كما يحدث في دول شرق وغرب أفريقيا ضمن عمليات خلط بين اللغات المختلفة، وهذا يذكرنا بما فعل أتاتورك في تركيا فيما بعد نهايات الدولة العثمانية.
ومؤخرا نشأ بين أبناء الجاليات العربية في المهجر ما سمي (العربيزي)، وهي خليط بين العربية والإنجليزية باستخدام الحروف والأرقام العربية والانجليزية، كنوع من الموضة والتطور، والامتزاج بلغة المهجر، وقد تقدمت تلك اللغة الكتابية خصوصاً في دول المهجر، حتى أصبح المستخدمون لها حتى في الدول العربية في تزايد.
وتعاقبت المحاولات، فكان أن قدمت بعض برامج الترجمة الصوتية الفورية، بمحاولة خلق لغة مشتركة سريعة، ولكنها لم تكن سريعة وفاعلة بالشكل المطلوب، ولم تكن دقيقة كلياً، كما أنها تستعمل لفك أزمة مؤقتة، مثل بعض البرامج (التطبيقات)، المستخدمة في مواسم الحج، كما أن أساس فكرة توحيد اللغة تنتفي مع الترجمة؛ غير أن التقدم المهول في التقنية يستمر وربما يتمكن من تطوير ذلك مستقبلا، وجعله طاغيا في يوم قريب.
وعلى اعتبار ما تقوم به شركات تصميم الأجهزة الذكية من محاولات لتمويع اللغات الرئيسية العالمية، بمحاولات جادة لجعل جميع البشر يتحدثون لغة واحدة، أو على الأقل التواصل من خلال نظام إليكتروني سلس فاعل موحّد، فقد قامت شركة سويفتكي (Swiftkey) ، بتطوير لوحة مفاتيح جديدة باسم سويفتموجي (Swiftmoji)، والتي تستهدف عشاق الكتابة باستخدام الرموز التعبيرية أيا كانت لغاتهم الأصلية، وهي مغرية وفعالة في كثير من الأحيان، ومن المؤكد أنها قد أضفت على جميع اللغات العالمية بعض التوحّد.
وقد قامت الشركة بتوفيرها مجانًا على نظامي (أندرويد وآي أو إس)، بتقنية أفضل لتنبؤات الرموز التعبيرية، التي تتوقع ما يكتبه المستخدم مقدما، بأن تضع الشركة أكثر من 1.800 رمز تعبيري كان يصعب العثور عليها بالبحث الطويل، قبل أن تأتي Swiftmoji)) لحل هذه المشكلة بعملية التنبؤ الإلكتروني الرقمي.
والتحدي الذي تواجهه هذه اللغة حالياً هو أنها مقروءة، وليست ناطقة، ولو أن النية واضحة لجعلها كذلك، من خلال تخصيص أصوات إليكترونية تمثل تلك الكلمات، ومما يمكن للسان البشري تمييزه وتقليده، وربما نجد أبنائنا قريباً يتمتمون بألسن معووجة، يحاولون جرنا معهم في لغة عصرية، ربما تكون عالمية في يوم من الأيام.
وحتى إشعار آخر تظل اللغة الإنجليزية هي الأسهل تداولاً والأكثر استخداماً سواء كلغة أولى، أو ثانية أو ثالثة للبشر.
وأن جميع اللغات الأخرى إذا ما استثنينا الصينية تضعف، وتصاب بالهجين، وتتبدل.
ومن يعيش منا رجباً، سيسمع ويرى عجباً من لسان هذا الإنسان، الذي لا تستكين له تطلعات.