عبده الأسمري
عندما كتب عبقري الرواية وسفير الأدب نجيب محفوظ رواياته الشهيرة التي كانت وستظل «أنموذجا» للاحترافية رأى الناس حينها «تجسيد» مذهل لحال «البشر» و»تسيد» مبهر لسلطنة الهوية.. فانتقلت فصول الرواية لتحاكي الهموم في أحياء القاهرة وعلى ضفاف النيل وتنتزع الغموم من صدور المهمشين فظل إنتاجه حتى اليوم «ترافعاً» و»دفاعاً» عن تفاصيل صغيرة تحولت بفعل «الحرفية» إلى عناوين إنسانية..
يبالغ بعض الأدباء في مجال الرواية إلى البقاء في «عزلة» الخيال التي تبعد القارئ كثيراً عن عمق الشخصيات فتتباعد الأفكار وتصل إلى حد «التشويش» مما يعقد «الفهم» ويصعب «الاستيعاب» فيما يبدع آخرون إلى «اقتناص» الفكرة من واقع الإنسان واللوذ بتلك القصص المخفية في الأماكن المنسية كونها الأجدى بالظهور علناً على عتبات الروايات..
كان الشعر كونه الفن الأقدم مشعلاً يضيء دروب «المكلومين» وخطاباً يختصر معاناة «المتعبين» فكان الشاعر «سفيراً» فوق العادة وخطيبا فوق الاعتياد ينتصر لتلك الآهات المتوارية بأمر السلاطين مما أوقع بعض الشعراء للوقوع ككبش فداء في اعتقال أو نفي نظير إنتاجهم القادم من أعماق الإنسانية وقصائدهم النابعة من سراديب المحن..
جاءت القصة والرواية كغمامتين أمطرتا كثيرا ولا تزال على قلوب جدباء رأت في الأدب تتويجاً لمعاناة الإنسان من خلال «إنتاج» المنحازين إلى البسطاء والمؤيدين للضعفاء فظلت أسماء بعض الأدباء مقترنة بالواقع المنسي في أطراف البلدان وقرينة بالوقع القاسي في أنحاء النسيان..
لا يزال بعض الروائيين والقاصين حائرين بين شهرة ذاتية تتهاوى مع اشتهار مستديم لروايات سابقة لم يصلوا إليها حتى اليوم رغم وجود كل الأدوات ووسط إفلاس مؤلم بأسباب البعد عن الجوانب الإنسانية التي كانت وما زالت «السر» في هيمنة روايات الثمانينيات والتسعينيات لأنها خرجت من «رحم» الواقع واستثمر الخيال فيها في «أمنيات» مؤجلة تبقى في حيز «مفهوم» أمام توقعات القارئ وتكهنات المتلقي..
مرت الفنون الأدبية بحالة من الجمود الذي تسبب به جموع «الساذجين» بأدواتها وأصولها ومهاراتها وبقت تستغيث بمنقذين جاءوا ليعلنوا أن الأدب شأن يستدعي «اليقظة» ويحتم «النهوض» فخرجت إلينا روايات ومجموعات قصصية ودواوين كانت بمثابة «الترافع» عن حالة «البؤس» التي تورط فيها باحثون عن الشهرة وأدين وسطها محتالون على الثقافة.. حتى رأينا «ظواهر» مخجلة في معارض الكتاب لدخلاء على التأليف وجهلاء أمام المعرفة..
رغم رحيل العديد من الأدباء والشعراء الكبار مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش وطه حسين وغازي القصيبي والطيب صالح وعبدالله البردوني ونزار قباني وغيرهم إلا أن صدى أعمالهم حضرت بسطوة العمق الإنساني وتوجت بحظوة البعد الوجداني حيث كانوا يكتبون إنتاجهم من «وسط» الناس ومن بين «البشر» وكانوا يحولون ملامح «الوجوه» ومطالب «المنسيين» وحيرة «المتألمين» وتجارب «السنين» إلى «خرائط» ذهنية و«مفاتيح» أدبية و«أرقام» سرية فتحت خزائن «الإبداع» وأخرجت «كنوز» الإمتاع في إنتاج عانق العالمية وبقى بين الأجيال كملاذ للحنين ومنبع للبهجة وواحة للذائقة.. وظلت مستويات «التنافس» في الحاضر ظاهرة في مؤلفات هشة متعاقبة تراوح مكانها أمام «سلطنة» الإنتاج في عصر «النبلاء» السابقين الذين كتبوا بحبر الإنسانية وسردوا بعبق المهنية..
لم يكن الأطفال الموبوءون بالتشرد والنساء المدججات بالصبر والشيوخ الباكين من العقوق والشباب المتورطين في الجريمة والفتيات المتوجات بالعفة في مدن عربية سوى «خلطة» عجيبة لصناعة «محتوى» الإنتاج الأدبي الذي أخرج لنا أدباء ومثقفين وقامات تحدثت عنهم «مكتبات» أوروبا وبحثت عنهم جامعات أمريكا وتناقلت محتواهم منصات «التكريم» وأعلنت تتويجهم محافل «الثقافة «ويبقى الجواب في ولاء الأديب والمثقف لمجتمعه وانتمائه لتفاصيل الوجع وشعوره بوقائع الأحوال وإتقانه وتمعنه وإجادته لدوره الإنساني ومهمته الأدبية في صناعة الفارق وتحويل الأوجاع الكامنة إلى علانية واجبة ودمج الحال بالمصير والقدرة على «الاستقراء» وتطوير ملكات الكتابة لخدمة الناس وإعانة البشر..
الفنون الأدبية بكل أنواعها «إنتاج» يعتمد على المهارة ويتعامد على الجدارة و»استنتاج» يخرج من غيبيات «الصمت» إلى حقوق «الجهر» ويتلألأ من تغييب الصوت إلى تغليب «الصدى» في مضمار مفتوح عبر الأزمنة ينتصر فيها الأدباء أصحاب الأنفاس الطويلة والأنفس الأصيلة والذين يتخذون من المعاني الإنسانية والقيم الحياتية والتجارب البشرية مقامات لصناعة الانفراد..
** **
- كاتب وأديب ومستشار سعودي