د. فهد بن علي العليان
في جلسة ينتظرها صاحبكم ويتشوَّق لها مع مجموعة من الزملاء الأكاديميين، وفي مقدمتهم أستاذنا د. محمد الربيع الذي سألني - ونحن نتوجه للخروج من استراحة الصديق الأغلى والأعلى د. عبدالله الموسى - عن توقفي في كتابة سيرة الذين التقيتهم، فأجبته أنه تقصير مني لا أجد له سبباً حتى وأنا على وشك الانتهاء من صفحات كتابي (حكايا من الذاكرة) الذي جمعت فيه كل المقالات والخواطر.
ما سبق مقدمة لما أريد كتابته - هذه اللحظات وأنا عائد من أحد برامج المسؤولية الاجتماعية - عن إحدى الشخصيات الرائدة والرائعة في مجال العمل التنموي والقطاع غير الربحي، وأعني بذلك الأستاذ القدير والصديق العزيز (أبو مشعل) عبدالعزيز الهدلق، وقد جعلت عنوان مقالي عنوان كتابه الذي صدر قبل فترة وجيزة في معرض الرياض الدولي للكتاب.
وهنا، لا أزعم أن هذا المقال قراءة في كتابه الثري بكثير من تجاربه وخبراته، لكنها حروف تتحدث عن أبي مشعل المسؤول والإنسان والخبير الاجتماعي، ذلك أنني عرفته عن قرب في أثناء صولاته وجولاته في وزراة الشؤون الاجتماعية في قطاع التنمية، وكذلك بعد أن انتقل للعمل عضواً بارزاً وفاعلاً في مجلس الشورى، ثم تزاملنا وما زلنا في لجنة المسؤولية الاجتماعية في بنك الجزيرة لأستفيد من خبراته الثرية وتسديداته المركزة بصحبة رئيس اللجنة المهندس عبدالمجيد السلطان الذي يستحق أن يفرد عنه مقال مستقل لتواضعه الجم وخلقه الرفيع ومحبته للأعمال الخيرية.
أبدع (أبو مشعل) سنوات طويلة من الركض في ميدانه الذي يجيده؛ ذلك أنه حاصل على درجة بكالوريوس خدمة اجتماعية من كلية الآداب بجامعة الملك سعود 1983م، وماجستير العلوم تخصص تنمية المجتمع عام 1992م من جامعة ميزوري بالولايات المتحدة. يقول هو عن نفسه في كتابه: «انطلق خلف الفرص التي سنحت له في عمله فحصل على شهادة الماجستير من الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح مسؤولاً لقضايا حساسة تمس الوطن مع المنظمات الدولية، ثم اختتم عمله في الوزارة ببناء وكالة الوزارة للتنمية الاجتماعية وأصبح أول وكيل لوزارة الشؤون الاجتماعية للتنمية الاجتماعية، وأخيراً تشرَّف بالأمر الملكي بأن يكون عضواً في مجلس الشورى، وبعد تقاعده كرَّس وقته مع الجمعيات الأهلية وخدمة مدينته شقراء».
بل إن أبا مشعل وهو الجدير في أعماله، والمثابر في كل وظائفه، واصل الجد بالجد والعمل بالعمل في وزارتين في آن واحد، إذ يقول: «من المهم في هذا السياق التنويه إلى أنه في 1-2-1425هـ الموافق 22 مارس 2004م انقسمت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إلى وزارتين: وزارة العمل، ووزارة للشؤون الاجتماعية، فكانت وظيفتي الأصلية في وزارة الشؤون الاجتماعية… ولأن إدارة المنظمات الدولية كانت تخدم الوزارتين العمل والشؤون الاجتماعية وهي في الأصل إدارة عامة تتبع للعمل هيكلياً، فما هو وضعي الآن؟ لسبعة أشهر بعد الفصل عملت مديراً عاماً لإدارة المنظمات الدولية في وزارة الشؤون الاجتماعية .. ليس معقولاً!»
وهنا، أريد أن أقول من مخالطتي له في اجتماعات متعددة ومتنوعة، إنه هادئ ضاج، هدوء يجبر من حوله على احترامه، وضجيج فاعل بأفكار منتظمة ورؤى رزينة ورصينة، فهو رجل قيادي وجاد، لدرجة أن بعضهم يصفه بأنه حاد. وعودا على كتابه الذي عنونت به مقالي، فقد أخرجه (أبو مشعل) في وقته وتوقيته المناسب ليحكي تجربة جميلة في محطات متعددة، إذ قال عنه: «يمر على المرء لحظات يجد نفسه يتوقف ويلتفت إلى الوراء إلى السنوات التي مضت من عمره وما تحمله من ذكريات ومواقف ومشاعر وأحداث وأعمال. عدد من الأصدقاء والزملاء يتساءلون لما لا أقوم بنبش الماضي وتسجيل الذكريات والتجارب العلمية في كتاب يوثق محطات الحياة التي مررت بها. لم يكن موضوع التوثيق في كتاب هاجسي أبداً فلم أفكر في أن أكتب ذكرياتي في الطفولة والدراسة والعمل الوظيفي وغيرها من المحطات. ولم يمكن التصوير يهمني في المناسبات اللاتي شاركت بها. جميع من تحدث معي في هذا الموضوع أشاروا إلى أهمية توثيق رحلتي في كتاب يستفيد منه من يقرأه ويعيش تفاصيله ويتعرف على تجربة عملية لموظف حكومي جاء من الأرياف فكانت له تجارب في مختلف المجالات ومن أهمها المنظمات الدولية ودهاليزها، وحقوق الإنسان، وأخرى محلية في مجال التنمية الاجتماعية والقطاع الثالث وانتهى به الطواف عضواً في مجلس الشورى».
ولقد بذل وقتا ليس يسيراً؛ مما يدل على جدية الرجل كعادته في أعماله كلها، حيث بقي أشهرا كما قال: « 24 ساعة على مدار أشهر عدة تم تسجيلها هي كل ما استطعت أن أتذكره حتى انتهيت. لم تكن ساعات التسجيل سهلة فالمعلومة أو الذكريات تحتاج إلى تركيز وعصر الذاكرة والمعلومة الواحدة تجر معلومات وذكريات. شريط طويل يحتوي على تفاصيل حياتي، استعرضت شيئاً منها ومر على ذهني أشياء وأشياء، ووجدت أن من المهم لي أن أسطرها، أن أحفظها ر بما يعرفها أبنائي وأصدقائي ومن كان حولي، ويستفيدون منها بما فيها من مواقف وعبر وذكريات جميلة. وقد يكون فيها ما يضيف للآخرين معلومة أو تجربة أو فكرة.
نعم هي ذكريات في محطات فيها كثير من الخصوصية في بعض أجزائها، لكنها لا تخلو من وقفات تعكس الظروف والأحوال التي مررت بها أثناء دراستي وأثناء عملي في مختلف القطاعات التي عملت بها».
ثم يقرر في آخر كتابه أنه قد آن له أن يستريح « واحد وثلاثون عاما قضيتها بفخر في خدمة بلادي، متنقلا بين أروقة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ثم وزارة الشؤون الاجتماعية؛ وما يستلزم ذلك من سفريات دولية ورحلات داخلية وزيارات دورية ومقابلات شخصية ولقاءات رسمية ومواقف عصيبة وأخرى مريحة. ثلاثة عقود صدقت فيها مع نفسي وقبل ذلك مع ربي - فيما أحسب-، فسعيت بجد لأخلص في عملي، وأتقن ما أبدأ به حتى أنهيه. توجت تلك الحقبة بأربع سنوات في مجلس الشورى بعد أن كسبت ثقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله؛ ليختارني شخصيا ضمن كوكبة من صفوة المجتمع لعضوية مجلس الشورى، فأكملت في خدمة بلادي خمسا وثلاثين سنة تامة. وهنا، رأيت أن الوقت قد حان لأنصرف لنفسي وأهلي وأسرتي، وأعتقد أن ما قضيته كافياً، وأشعر برضا داخلي، إضافة للعمل التطوعي في الجمعيات الخيرية».
وأخيراً، فإن هذا الرجل الأنيق الجاد كثير الترحال يختم كتابه بعبارات تقطر وفاء لرفيقة دربه وصاحبته في رحلته المديدة فيقول: «زوجتي مي بنت محمد العنقري، هي رفيقة دربي وصديقة الترحال والأسفار، وأنيسة وحشة الاغتراب وضغوط العمل والتنقّل، ومهما قلت فيها فلن أفي هذه المرأة العظيمة حقها وصبرها ومبادرتها».
بقي أن أقول لكم: إن الكتابة والحديث ليسا يسيرين عن شخصية (أبو مشعل) الإنسان والمسؤول ورجل الأعمال الاجتماعية والإنسانية، فهو يستحق صفحات كثيرة، لكنه كفانا ذلك حين أخرج كتابه الذي يحكي محطاته المتنوعة والجميلة؛ ولذلك عمدت إلى النقل من كتابه، وهي دعوة للجميع للاطلاع على حروفه وتجربته الثرية.
(الجدية .. إنجازات)