«الجزيرة الثقافية» - جابر محمد مدخلي - الظهران:
جميل أن نجد وظيفةً أخرى لعلامة «التنوين» غير وظيفتها اللغوية وتحديدًا حين نقرنها بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، ثم نعيد إقرانها بحدث إبداعي متفرد صنعت منه «إثراء» تنوينًا لتشكيل الأدوات التي جاءت كشعار آخر أكثر التفاتة وإعادة للتكوين الأول منذ نشوء البشرية وأدواتها.
البدائية الأولى.. لقد انطلق الكرنفال بهذا المركز الذي يعد اليوم واجهةً إبداعيةً رفيعة المستوى. ولعل المتابع أثناء حضوره، أو زيارته سيشعر وكأن القائمين على «إثراء» قرروا سلفًا أن يكون جهدهم مُنَصباً ومصوّباً على صناعة إثراءً وطنيًا استثنائيًا ومتفردًا ونافعًا لجميع الحاضرين في إجازاتهم الأسبوعية بين 27 من شهر أكتوبر، حتى 13 من نوفمبر للعام 2021م، وحين نقول استثنائيًا؛ لأن جميع السبل هيئت له لئن يكون كذلك، ولكي نثبت لكم أنه تجاوز الاستثنائية الإبداعية على أرض الواقع، فهذا مردّه إلى حشود البرامج الإمتاعية والفنيّة والصناعات الثقافية والإبداعية الأخرى حيث إن المتحدثين فيه سيكونون قرابة ثلاثين متحدثًا ومعظمهم من المؤثرين في صناعة الإبداع والثقافة العالميين، وسيقدم البرنامج ما مجموعه عشر دورات، وعددًا من ورش العمل الابتكارية، وكذلك إبراز تجارب متفردة. وسأعترف وأنا أنقل لكم هذا «الإثراء» الإبداعي الذي جعلني أقف أمامه مرددًا بإعجاب وافتخار بأن من كان قادرًا على صناعة الدهشة لا بد أنّه يملك مصانع كثيرة، وأدوات قادرة على الغوص لأماكن وصناعات أبعد من الإدهاش نفسه، وأقدر على الإقناع والتطوّر واستحداث فرص ثقافية من باطن الأذهان، والعقول الموهوبة التي هيأها الله لجميع الباحثين والمنقّبين عنهم.
هذه الالتقاطات وغيرها نتجت على أرض مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي – إثراء، وتحديدًا في ليلة إطلاق نسخة إبداعية من برامج «تنوين» والتي اختار لها القائمين على المركز اسمًا رائعاً وذا دلالات عميقة عادت بنا إلى بدء الخليقة وربطتنا بيومنا الحاضر، وستبقى معنى إلى ما لا نهايات سواءً أكانت «الأدوات» أو الأدوات الإنتاجية.
لقد جاءت الافتتاحية مبهرة حقًا، إلا أنها لم تكن أكثر إبهارًا من عنوانها الذي اقترِح لها؛ لأنه جاء شاملًا حاملًا للمعاني، ومفتوحًا على كل ثقافات وحضارات العالم، وهذا ما أثبتته المتحدثة الرئيسية «سوغوين شونغ» كبير مديري التصميم حيث إنها أعطت الحاضرين إشعارات حسيّة ونفسية من خلال فلسفات ثقافية يمكننا أن نكسر بها المستحيل، فاللون الذي كان بأيادينا صغارًا، والأطفال الذين يرونه لُعبة تغيير، وتعبير، وأداة تسلية بات لدينا من خلال محاضرتها ما يمكن تسميته «بروبوت الفن التشكيلي، أو حامل الريشة».
وأمام محاضرة بهذا النوع كان أمام الحاضرين خيارات كثيرة لإشباع نظراتهم، وإحساسهم بمؤثرات الشرائح التي ظلّت تعرضها بين وقتٍ وآخر.. ولكن الأكثر إثارةً لم يكن العرض بمقدار ما كنت على يقين أنّ من كان عاجزًا عن فهم لغتها، أو كلماتها إلا أنه لم يعجز عن استيعاب أثر الأدوات التي استخدمتها، التي كانت أبلغ بكثير من الحاجة إلى ترجمتها، كانت حكاية من البذرة والفكرة حتى غدت أداةً مؤثرةً جاهزةً للتحول إلى أداة فاعلة في مستقبل الرسم الهندسي، والإبداعي، والتصميمي.
ثم إنّ مؤثرات الكرنفال لم تبق عند برامج المتحدثين ولا محاضراتهم، ولا تجاربهم العملاقة، وإنما مضت بنا إلى منتجات أخرى كانت تقف على المسرح ثم تغيب لتجلس بين الجماهير والتفكير يعتمل داخلها وهي غير منشغلة إلا بالغد التطويري وأدواته المُدهشة والمنتظرة لأدوارها القادمة في رفع كفاءة مركز إثراء، وتعزيزه كواجهة ثقافية إبداعية لم يخلق مثلها في البلاد، وكان هذا المشهد متمثلًا أمامي بين شخصيتين هما من يقفان خلف هذه المنجزات الخلاّقة: أحدهما أخذ دوره على المسرح وتحدث حديثاً تخطيطياً للغد المتلهف إليه هو وجماهير إثراء المليونية والمتزايدة كل يوم إنه المهندس عبدالله الراشد مدير البرامج في مركز إثراء، والآخر يجلس حاملًا يديه مرةً ليرفعهما، وأخرى ليصفق بهما مؤمنًا بأنّ التشجيع هو الشاهد على الاقتناع بما سمعناه، والتحفيز بما سنراه لاحقًا وهو الدكتور أشرف فقيه مدير قسم البرامج في المركز.
ومن واجهة أخرى وأمام المسرح الكلاسيكي لم يكن إلا دهشةً تجبرك على الإنصات وتقليب النظر في كل ما له علاقة بالمكان أو بخارجه.
وفي جلسة حوارية أدارها أمين مكتبة إثراء العالمية الأستاذ طارق الخواجي، الذي استطاع محاورة ضيوفه بسكينة، وإبهار على منصة المسرح المملوء بالزوار والضيوف. خواجي الذي استطاع بأسلوبه إعادة إحضار الأمس الذي فاتنا من خلال إعادة تدويره عبر مصنع الذاكرة بالحديث مع ضيوفه عن منجزاتهم ومشاريعهم ومبادراتهم وكل ذلك تمّ في لحظات سريعة ليوقفنا أمامها مبتهجين بكل منجز، وفخورين بكل عطاءات وطننا بشكل خاص والأوطان العربية الشقيقة بشكل عام، وهذا الجزء من الكرنفال يمكنني أن اسميه الإدهاش المعتمد على نقل التجارب، والمُسلّط الضوء على ضرورة الإتيان بكل جديد لتستمر البشرية في تطوير أدواتها، وفتح أذهانها الثقافية لكل ما هو آت.
وأمام الذي مضى والذي لم تسعفنا اللحظات لالتقاطه لكثرة الملتقط.. عليّ أن أعود بكم لنقرأ من وجه آخر لماذا كان العنوان لهذا الكرنفال «الأدوات»؟ ولنجيب إجابة علمية وعملية على هذا الجزء المهم من هذا المُنجز علينا الرجوع لما وضعه مركز إثراء في موقعه الإلكتروني: https://www.ithra.com/ar/ والذي جاء فيه إيضاحًا لسبب اختيارهم لهذا المسمى، يقولون: «مثلما انطلقت المواسم السابقة تحت عدة شعارات تضمنت: «الزعزعة»، و»اللعب»، و»القادم الجديد»؛ يأتي هذا الموسم تحت شعار «الأدوات»؛ ليكشف لنا جانبًا مهمًا من جوانب العملية الإبداعية، وليسلط الضوء على الأدوات الإبداعية التي تُسهم في استمرار الصناعات الثقافية والإبداعية، إلى جانب ابتكار وقيادة مستقبل الاقتصاد الإبداعي».
وأخيرًا يمكننا القول في تقريرنا هذا: أنّ مركزًا كإثراء افتتح في عام 2018م واشتمل على المتحف، والمكتبة، والسينما، والمسرح، ومتحف الطفل، ومختبر الإبداع، والمركز التعليمي، واستوديو الإنتاج، إضافةً إلى مطاعم ومساحات داخلية وخارجية للمهرجانات والمعارض والمؤتمرات والعروض، وجاء بهذا النسيج المستوحى من حضارة الإنسان وأرضه السعودية، والجالس على بقايا ذاكرة أول بئر اكتشفت في وطننا –بئر الخير- لقادر على إنشاء مصنع سعودي لتصدير صناعات وطننا الثقافية والإبداعية ولعل في اعتمادهم على مؤشر CCI الأول من نوعه في المملكة سيجعلهم باستمرار في طموحات متصاعدة لن توقفها لا الظروف ولا المتغيرات؛ لأن الإثراء القادر على تحويل الثقافة والإبداع إلى صناعتين سعوديتين بامتياز سيبلغ الآفاق ولو بعد جيل من الناس، أو حين من الدهر...