تعجب صديق لي مما قلته في مقال سابق في «الجزيرة الثقافية» من أن البيت التالي:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والداء واحد
لابن نباتة السعدي، وليس لأبي الطيب كما يعتقد هو وغيره. قلت له دونك ديواناهما، فالبيت ليس في ديوان المتنبي، وهو في ديوان ابن نباتة في الجزء الثاني ص567 بتحقيق عبد الأمير مهدي حبيب الطائي، من قصيدة طويلة يعزي فيها ابن أبي الريان عن خاله.
وشاعرنا هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي التميمي، ولد في بغداد سنة 337 وتوفي فيها سنة 405، وهو واحد من خمسة أعلام عرفوا باسم ابن نباتة، والأربعة الآخرون هم: ابن نباتة الخطيب، وابن نباتة الأعور الموصلي وابن نباتة المحدث وجمال الدين بن نباتة المصري الشاعر المعروف.
وهو شاعر مجيد، يدل على ذلك ديوانه المحقق الذي يضم أكثر من ستة آلاف ومائتي بيت في جزأين كبيرين يبلغ عدد صفحاتهما أزيد من ألف وثلاثمائة صفحة. لكن أضرَّ به وجوده في عصر المتنبي. وهو - كما يقول محقق ديوانه - تلميذ المتنبي وبه تأثر، وأستاذ الشريفين الرضي والمرتضى. كما كان راوية للشعر وناقدا له. ولعل من سمات تأثره بأستاذه هذا التشاؤم الذي نجده عنده والفخر بالنفس وكثرة الحكم والتمرد على الزمان وأهله.
مدح أمراء بغداد في أول عهده، لكنه لم ينل ما يأمله منهم، فاتجه إلى سيف الدولة، وكان ذلك بعد مغادرة أبي الطيب المتنبي بلاطه، واستقر عنده ومدحه بغر القصائد، إلا أن هذا العهد السعيد ما لبث أن انتقض بسبب رثاء ابن نباتة لصديقه أبي علي الحسن بن الأهوازي الذي قتله سيف الدولة لخيانته له وممالأته للروم سنة 355، فخرج متخفيا كما خرج من قبل أبو الطيب، لكنه لم يبعد كثيرا فقد اتجه إلى حمص حيث أبو فراس الحمداني أميرها، فأعاده سيف الدولة إليه. ولم يخرج من الشام إلا سنة 358 حين خرج أبو المعالي بن سيف الدولة منها. واتجه إلى البويهيين فمدح عددا منهم أهمهم عضد الدولة البويهي، ومدح بعض وزرائهم، وأهمهم ابن العميد. كما مدح الخليفة العباسي القادر بالله.
وكان شعره ذائع الصيت. فقد روي عنه قوله: «كنت قائلا - أي مستريحا وقت القيلولة - في دهليزي، فدُقَّ علي الباب، فقلت: من؟
قال: رجل من المشرق.
فقلت: ما حاجتك؟
فقال: أنت القائل؟
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والداء واحد
فقلت: نعم
فقال: أرويه عنك؟
فقلت: نعم.
فمضى. فلما جاء آخر النهار، دُق علي الباب. فقلت: من؟
فقال: رجل من أهل (تاهرت) من المغرب.
فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل؟
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والداء واحد
فقلت: نعم.
فقال: أرويه عنك؟
فقلت: نعم. وعجبت كيف وصل شعري إلى المشرق والمغرب.
والقصة وإن بدت مصنوعة سواء أكان هو من ألفها أم غيره لا تخلو من دلالة على ذيوع شعره.
ومن شواهد تداول شعره بين الناس وحفظهم له ما ذكره محمد بن أحمد بن سهل من أنه دخل علي أبي الحسن محمد بن علي بن نصر في مرض موته بواسط، فلما قام من عنده أنشده بيت ابن نباتة:
متِّعْ لحاظك من خلٍّ تفارقه
فلا أخٌ لك بعد اليوم بالوادي
وقد ألجأته سيرورة شعره إلى القضاء، إذ إن رجلا سأل فخرَ الملك؛ وزير بني بويه حاجة وأمَّله، فلم يعطه شيئا فمضى إلى القاضي، وادّعى على ابن نباتة!
فلما حضر عند القاضي قال: والله ما لأحد دين، ولا بيني وبين أحد مخاصمة، فمن خصمي حتى أرضيه؟
فقال: هو ذا.
فقال له ابن نباتة ما حقك حتى أوفيك؟
قال أنت مدحت فخر الملك في شعرك بقولك:
لكل فتى قرين حين يسمو
وفخر الملك ليس له قرين
أَنِخْ بجنابه، وانزل عليه
على حكم المنى وأنا الضمين
فأنت قد ضمنت، وأنا قد نزلت عليه فلم يعطني شيئا، والضمين غارم!.
قال أمهلني حتى أصل إليه.
فلما دخل عليه وأخبره بالقصة قال: كم أمَّل الرجل؟
قال: مائة دينار.
قال ادفعوها له. وقال لابن نباتة: إذا مدحتني فلا تعد تضمن عني شيئا!
** **
- سعد عبدالله الغريبي