انطلقت دراسة النصوص الشعرية في دواوين الشاعر السعودي «عبد الرحمن العتل»، من رؤية نقدية ارتكزت على إبراز الوعي الثقافي، والفكري، والمجتمعي لدى الشاعر في التعبير عن أهمية المرأة في حياة الرَجل، وعلاقته بها كجزء رئيس في استقامة الحياة، وهو ابن المملكة العربية السعودية التي نشأ الشعر فيها وترعرع، فكانت أرضا خصبة لأغراضه وموضوعاته، التي عبّرت عن بيئتها وثقافتها.
«وحدها هند»، «رجفة الوجد»، «لأني أُحب»، «دفتر من أرق»، عناوين تصدّرت لدواوين الشاعر السعودي «د. عبد الرحمن العتل»، وهي عناوين مؤطرة لنصوص شعرية قصيرة، ذات خلفية قصصية تحكي في غالبيتها عن واقع الحبّ في نفس الشاعر وذاته، وهي سلسلة من موضوعات الهوى وسلطانه، والغزل برقته وعنفوانه. فبين واقع وخيال، وانتفاضة عشق لا ينتهي، تتراقص كلمات الحبّ، في أسارير المحبين، تفضحهم أفواههم شعرا، ينظمون فيه الوجد حبرا، تتمايل عباراتهم فينا، ونتمايل مع موسيقاهم طربا.
«وحدها هند»؛ تحكي تفاصيل علاقته بالمرأة، فهي صورته المختلفة، التي تكمّل جلال هيبته ورجولته، وهي حبه الأول، وسعادته الأبدية، خطاب شعري يصف واقعا دالا على ظاهرة اجتماعية توحي باكتفاء الرجل بامرأة تسنده بعاطفتها واهتمامها، ويحتويها برجولته وحكمته، تكافؤ لا تباين فيه، تتبعه بمنطقية وشرعية، ويهواها بهيبة ووقارا، فيأتلفان حُبّا وعشقا ومسارا.
«إلى هند وحسبي أنّ هندا
هي الأولى التي قلبي اصطفاها
وتسندني إذا انقطعت حبالي
لأنهض من جديد في مداها
هواها يا لروعته وحسبي
هي الأولى ولا أحد سواها»
ونجد مفهوم الاكتفاء بمحبوبة واحدة قد سرى في قلب الشاعر، كما هو امتداد لذلك التعلّق الصادق بفتاة واحدة قد عهدناه عند شعرائنا القدامى، وأما الاعتداد بالأسماء فليس بالأمر المستغرب، فجميل بثينة، وكثير عزّة، ومجنون ليلى، وحبّ عنترة لعبلة، وغيرهم من الشعراء المحبين قد ذكروا أسماء معشوقاتهم دون تأهبّ أو خوف، وشاعرنا «عبد الرحمن» المحبّ لـ»هند» لم يتوان لحظة عن ذكر اسمها، لما يحمل لها في قلبه ونفسه من مكانة عظيمة، فهي البداية لقلب «اصطفاها» خليلة له، وبها يختتم حبه ووجدانه.
و»على الموعد» المنتظر، تتوق المحبوبة شوقا للقاء فارس قلبها، وهو كذلك لا يتوانى عن تهدئة روعها وقلقها؛ فالنص التالي لا يخرج عن المستوى الإنساني للذات العاشقة، فقد بدأها الشاعر بإبراز الجانب السلطوي على المرأة، ولكنه سرعان ما تلاشى أمام جاذبية الحبّ، وخضوع تلك القوة القامعة فيه، لتتحول إلى تجاذب حنين مشترك، له أثره الجامح في علاقتهما.
«قالت: متى الميعاد أين سنلتقي
إنّي ضعفت أمام موج تشوقي؟
قلتُ: اشتبهنا في الحنين وها هنا
ميعادنا هيا إليه لنرتقي»
إن لجوء الشاعر لاستخدام الحوار في نظمه الشعر الغزلي، هو وسيلة لإشراك القارئ في التفاعل مع الحالة النفسية التي يعانيها، فالقارئ ليس بمعزل عن ذلك الفكر والثقافة العربية التي يعتقد الشاعر بهما، ففي هذه الأبيات تقارب واضح لعشق المرأة وشغفها بالرجل أيضا، وهو ما نلحظه في قصائد شاعر العصر الأموي «عمر بن أبي ربيعة»، في قوله:
«قومي تصدّي له ليبصرنا
ثم اغمزيه يا أختِ في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى
ثم اسبطرت تسعى على أثري»
«تقول إذا أيقنت أني مفارقها
يا ليتني مِتّ قبل اليوم يا عمر»
ولكنّ الاختلاف يظهر في إصرار «عمر بن أبي ربيعة» على تعذيب تلك النساء، على عكس شاعرنا في العصر الحديث، الذي أبرز جانب العطف في سياقه الشعري في قوله:
... لا تجزعي من بُعدنا أو تقلقي
سيطل ميعاد اللقاء كغيمة
تهمي فنرشف هائمين ونستقي»
فقد أجاد الشاعر في انتقاء ألفاظه في التعبير عن مقام الحال، واختياره لفظة «الجزع» تحديدا ليدلّ على حالة الرعب التي تعيشها المحبوبة جرّاء البعد والفراق، الأمر الذي يستدعي حضور نموذج حيّ يُسهم في عطفه إلى تهدئة الذات الجازعة، فكان الشاعر لها السند، يخفف عنها، ويَعِدُها بارتواء الحبّ بعد انقطاعٍ وتجافٍ، كغيمة حملت معها أمطار الخير، تسقي بها الأرض بعد جفاف وقحل، لتكتمل صورة الارتواء والشغف والنشوة، في تلك..
«الرياض اليانعات وماؤها
عذب كثغرك في اللقاء المغدق»
هِبات مترامية بلا حساب، وعطايا حبّ مليئة بالخيرات، يانعات مزهرة في «حبّ يرفّ بدفئه المترقرق».
وينتقل الشاعر في قصيدته الأخرى (محبوبة متفردة)، ليُطل على القارئ بظاهرة اجتماعية جديدة، تتمثل في كثرة الوشاة الحاسدين المترقبين، تلك الظاهرة التي طالما نبتت جذورها منذ خلق الإنسان، تحيل إلى تفاصيل واقع مرير، له تأثيره السلبي على نفس الشخص ومعاناته من أحاديث قد انحرفت عن حدود مسارها الحقيقي.
فذلك التقاطع بين الشاعر وصياغة النص، توحي بنضوج فكره المتعلّق بحقائق بيئته ومجتمعه، ونظرتهم الخاصة في بعض القضايا الاجتماعية المتوارثة، فهو ابن بيئته، وهو صورة مصغرة عنها، فالشاعر على وعي تام بتلك المكتسبات التي تؤثر إيجابا، وربما سلبا على حقيقة واقعه وما يقبله أو يرفضه، وفي هذا المقام يقول:
«حذّروني من حبها فانتهيتُ
... ورموها بكلّ عيب ونقصٍ
يا لهذي القلوب منها اكتويت!»
فالوحدات اللفظية وما تحيله من معنى في هذا النص، يجمعها حقل دلالي واحد يتمثل في شغف المحبين وعشقهم لبعضهم البعض، وما يواجههما من لومة لائم، وندم واضح في عدم الكتمان لهذا الحبّ، «ليتني عن غرامها ما حكيت»، فكل ذو نِعمة محسود، وهو حال شاعرنا.
ويدخل الشاعر في نطاق لغة الجسد «لغة العيون»، وما توحيه من إشارات دالة على أبعاد جمالية ونفسية، تشي بكلام صامت ومكبوت..
«بخلت أزاهير الربيع ولم تبُح
بالحبّ لكنّ العيون فواضحُ
تنبيك عمّا في الضلوع من الجوى
فإذا المشاعر كلُّهن سوافحُ»
فقد كنى الشاعر عن محبوبته بوصفها «أزاهير الربيع»، وعلى الرغم مما يحمله الربيع من خُضرة وجمال، ورغم عطائه وبعثه الأمل في النفوس، إلا أنّه قد جاء على غير عادته هذه المرّة، بخيلا في عطائه، فلم تبح المحبوبة عمّا في قلبها، ولكنّ العيون قد نطقت عمّا خُفي فيه، فلم تعد بحاجة إلى ترجمة عواطفها؛ فللعيون لغة لا يفهمها إلا الأحبّة، وهي ثقافة مشتركة بينهم، تُفصح عمّا كان خافيا في الأضلع والجوارح.
وفي انتقالة سريعة، بتفاصيل دقيقة، يكشف الشاعر عن عُمر تلك المرأة التي يعشقها، وهي قضية اجتماعية تحرص المرأة فيها على عدم الكشف عن عمرها، ولكنّ الشاعر بذكائه قد رسم لنا صورة واضحة عن حقيقة تلك المرحلة العمرية المفعمة بالسخاء والعطاء..
«الأربعون وما وصلت مداها
أتأمل الماضين في أخراها
حسبي وحسب الأربعين حبيبتي
لا زلتُ أحبو في ربيع سناها
وتردّني عشرا بحسن جمالها
حوريةٌ، اللهُ ما أحلاها!
ضمت يديّ وقبلتني ها هنا
في موضع التقبيل طاب جناها
ما زال طعم الرّيق يعذبُ في فمي
فأقول زيدي ثم تشعل فاها»
هذه الأربعينية التي سلبت عقل الشاعر في «حسنها» لم تزل واهبة لذلك الجمال والرّقة، شبيهة الحور في عينه ووجدانه، متجددة تجني ثمار العشق، وتهب في نفسه حلاوة الحياة والاستزادة من روح الشباب والصبابة. وهنا يركز الشاعر على الشقّ الآخر من لغة الجسد، المتمثل بالجمع بين جمالية الفم والريق، وقد وظفهما توظيفا دقيقا للدلالة على تأثيرهما الإيجابي، وما يحويانه من اللذة والمتعة التي يستشعرها عند مقابلة فتاته، فملامح المرأة تُجسّد أيقونة متكاملة تحمل كلّ الصفات الأنثوية التي تخاطب المشاعر، وتستدعي إشراك الخيال والعاطفة.
وفي «نفثة» يشبّه الشاعر الحبّ بكؤوس الخمر..
«واسكب كؤوس الحبّ ريانةً
دعنا نعبّ الحبّ يا شاعري»
وما ذلك إلّا انفتاح النص على الفاعلية التأثيرية، فالتشبيه بالخمر يعني طيب المذاق، وتذوّق العشق هنا صورة استدعت الخمر ليس لإبراز مذاقه فقط، وإنما لرفع راية الاستسلام، وبه تظهر فاعلية الصورة وتناسبها للمقام. ويتلعثم الشاعر أمام جمالها مجبرا، كاتما سرّ حبه، فالكلام يذوب في حضرتها، والعاطفة متجذرة متأصلة فيه، فكرةٌ فضفاضة في شموليتها تحكي واقع المحبين..
«وبي شغف إليها غير أنّي
إذا أبصرتها ذاب الكلام
أتحمل مقلتاها سرّ خوفي
فيغلبني التلعثم والمقام؟»
وتبقى المرأة مصدر إلهام الشاعر في شعره، وتبقى الأولى في استعذاب أجمل الكلمات والعبارات، واستنزاف ألفاظ اللغة ودلالاتها، فلا تثريب إن ألّف دواوين شعره، وآلف بين القلوب المُحبّة، فهي المجتمع وقضيته، وبها يسمو الشعر، وهي حياة القصيد وروحها، وهي محور إبداع الشاعر في أبهى صوره
«هذي الدواوين من عينيك أكتبها
قصائدا لم تزل ريانة الألقِ
على شواطئها تنداح أشرعتي
وفي مدائنها أنجو من الرهقِ»
فالحُبّ فكر وثقافة ووعي، والحُبّ مجتمع متآخٍ، تُزهر الحياة فيه، وتتعانق به الأرواح، وتتجاذب من خلاله القلوب، يهِبُ السكينة بأضلع مليئة بالعناق والقرب، وبهذه النصيحة نختتم قراءتنا لبعض مختارات الغزل في الشعر السعودي..
فـ «لا تبخلوا بالحبّ فهو حدائق
ملأى بألوان الجمال الزاهر
تعلو به الأرواح غاية حسنها
في لوحة تسبي عيون الناظر»
** **
د. أسماء أحمد عناقرة - أستاذ الأدب والنقد المساعد بجامعة المجمعة