أمام منظر الكتب المضمومة بعضها إلى بعضٍ على الرفوف، وعناوينها المتنوعة الكثيرة، وألوان أغلفتها وأشكالها وأحجامها المختلفة؛ قد يطرأ على بال أيّ أحد منا تساؤلاتٌ عديدة عن قيمة القراءة، ودورها في تغيير الفرد، وتنمية قدراته الذهنية، وبالتالي تحسين حياته عمومًا كمحصِّلة نهائية.
حدث وأن تساءلتُ عن مسألة جدوى القراءة انطلاقًا من مبدأ نفعيّ. وبينما كنتُ أفكّر بذلك، اكتشفتُ أنني لا أتساءل إطلاقًا قبالة رفوف المواد الغذائية، كما هو الحال مع رفوف الكتب، ولا أتساءل أيضًا حينما أؤدّي العديد من التمارين الرياضية في الأماكن المخصصة لذلك أو العامة! وإذا ما كان سبب عدم التساؤل -برأيي- هو اليقين التام الملازم لمُسلَّمتَيِ الغذاء والرياضة؛ كونهما حاجات أساسية نافعة للإنسان وصحته البدنية؛ فقد وجدتُ نفسي أتساءل: لماذا لا يصاحب القراءة واحتياج الأذهان الأساسي للانتفاع بها اليقين ذاته؛ لتصبح بذلك مُسلَّمَة، وتُشكّل إلى جانب الغذاء والرياضة مثلثًا للحياة التي يبحث عنها الكثيرون، المليئة بالحظ والفرص والمعرفة؟
تُضفي القراءةُ المعنَى بطريقةٍ ما إلى الحياة. لكن لا يمكن انتظار نتائج منها بلا شرط المواصلة؛ إذ إنها كالغذاء والرياضة؛ أثرها يأتي ببطء، ولكن لا يرحل أبدًا. تمامًا الأمر معها أشبه بالأهمية المرجوة من وراء وجبة وحيدة مهما كانت مليئة بالعناصر الغذائية المفيدة، فإنها - رغم ذلك - تبقى غير كافية. كذلك ينسحب هذا على نتيجة التمرين الرياضي لمرة واحدة؛ فهو غير قادرٍ على مَنْح الفائدة المأمولة من الرياضة. هكذا هي القراءة، عملية تراكمية وممارسة لا تُعطي ثمارها إلا من خلال الاستمرار، والاستمرار فقط.
القراءة نشاطٌ مُغَذٍّ للأذهان، بالإمكان اكتسابها بالتعوّد، وهي نافذة تحظى بإمكانية تخطِّي المرء حتى حدود ذاته، ومن شأنها دائمًا أن لا تُحسِّن من الفرص في الحياة فحسب، بل تَخلقها أيضًا؛ إذ إن وتيرة اكتساب الفرد للمهارات والأدوات المعرفية والتحصيل المعرفي، وقبل ذلك نسق التكوين الثقافي، تزداد اتساعًا وعمقًا كلما زاد تعليمه وتجربته وخبراته في الحياة، فما بالك إذا ما كان هذا الفرد قارئًا بالمعنى الوظيفي للقراءة؟ ماذا سيكون عليه حجم الفرص التي أمامه بعد توظيف القراءة رافدًا ينهل منه، خاصةً أن القراءة تمنح أكثر من حياة من خلال التجوّل في عقول الآخرين، بالإضافة إلى أنه قد ثبت عنها -إما عبر الدراسات أو النماذج الحية- أن لها أثرًا وإضافة على مستوى الذكاء، والتركيز، وإثراء المخزون اللغوي، والمعرفي، والتفكير الإبداعي، وفوائد غيرها عديدة تنعكس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على كفاءة الفرد وطاقته وقدرته؛ ومن هنا تتطور الفرص أو تُخلق. هذا عدا أن القراءة من ناحية مختلفة أخرى باتت نمطًا في العلاج يُطلق عليه «الببليوثرابيا»، مما يجعلها بمثابة تعويذة غير خارقة.
إن توظيف القراءة لا يقل صعوبةً وأهميةً عن تعلّمها. وإذا ما كان لهذا الأخير -أي تعلم القراءة- منهجٌ يُدرك الجميع أهميته ومنفعته، وتتضافر الجهود لتطبيقه؛ فإن توظيف القراءة ما يزال مقتصرًا على مجهودات هنا وهناك لا ترتقي حتى الآن لمجاراة التغيّرات، والقضايا، والتحديات الراهنة، وجميع ما يحدث في الواقع المُعاش.
لذلك، لا بد من الحرص أكثر على توظيف القراءة منهجيًّا لدرجة جعلها جنبًا إلى جنب مع تعليمها، وإيجاد الخطط والبرامج التي تشمل فئات المجتمع جميعها. ومن جانب آخر، ينبغي أن تُكثّف الجهود من جميع الجهات حتى الأفراد المهتمين بذلك؛ لرفع مستوى الوعي بوظيفة القراءة، وخلق حالة ثقافية شبيهة بما حدث ويحدث مع نشاط الرياضات المجتمعية الذي ازداد مقدار الوعي بها وبأهمية الحفاظ على الصحة البدنية مؤخرًا عبر تكاتف الجهود المنظمة والفردية؛ بدءًا من إفراز صورة ذهنية عن مدى الإيجابيات والسلبيات التي لها علاقة مباشرة بممارسة الرياضة من عدمها، فضلاً عن توفير البيئة والوسائل اللازمة من ملاعب مجهَّزة في الأحياء، وأماكن مخصَّصة للمشي، وأندية رياضيَّة خاصَّة وعامَّة، كل ذلك وغيره قد دفَع الكثيرين لتخصيص وقتٍ لممارسة الرياضة والاستمتاع بها ضمن الروتين اليومي.
بهذه الكيفية نفسها، أو بطريقة مشابهة، يتم تحفيز المجتمع ودفعه نحو استشعار أهمية القراءة ووظيفتها والوعي بها. مصاحبًا ذلك - بكل تأكيد - توفير البيئة والوسائل اللازمة، مثل أندية القراءة المجتمعية، ونشر المكتبات العامة ولو بأحجام صغيرة، والتشجيع على القراءة من خلال المسابقات وغيرها. والأهم من ذلك التركيز على خلق صورة ذهنية كخلفية للحراك، يتسنَّى للفرد من خلالها لَمْس إيجابيات تجارب الآخرين المرتبطة مباشرة بالقراءة، إضافةً إلى السلبيات ولاسيما تلك المتعلقة بالجهل والتخلُّف والتردّي الثقافي والفكري.. التي تُسهِم القراءة في علاجها أو على الأقل علاج جزءٍ كبيرٍ منها.
** **
- أحمد الجميد