هناك ثُلة من البشر تضرب بهم أمثلة الكفاح والمثابرة، هم الذين يعيشون من أجل العمل لا من أجل الراحة هم الجنود المجهولون والمقاتلون إلى آخر رمق هم الذين يحظون بإجازة مدتها 24ساعة تنقضي في غمضة عين..
في كل أسبوع انتظر بكل شوق ولهفة يوم الجمعة، اليوم الوحيد لي للاسترخاء من بعد ستة أيام عمل متواصلة ولا أعلم في الحقيقة إن كنت سوف أسترخي أو أنجز الأعمال المؤجلة على أي حال وجدت مكالمة فائتة من صديقتي نورة تدعوني لحضور حفلة عيد ميلادها، لم أستطع سماع رنة الهاتف في حينها، كنت منغمسة في النظر إلى السقف والتفكير في مستقبلٍ مجهول.. مستلقية استشعر دقائق الراحة التي سوف تُسرق مني في اليوم التالي..
وفي أثناء لحظات التأمل أدركت أنه يجب علي الإسراع في الرد وإعلامها بحضوري، أمسكت هاتفي المحمول مرة أخرى ولمحت رسالة من عيادة الأسنان لتذكيري بموعد الغد الذي ألغيته مرات عديدة وذلك لأنني لا أملك الوقت الكافي.. أليس من العدل أن تفتح عيادة مخصصة لأصحاب اليوم الواحد..!
على أي حال أستطيع الصبر أسبوعًا آخر، لكن يجب علي أن أقرر ماذا سوف أفعل الآن قبل الذهاب إلى حفلة الميلاد.. حسنا لا بد أني سوف أحضر فلم أقم بفتح تطبيق حجوزات السينما لأجد جميع المقاعد قد حجزت في وقت سابق حيث كنت منهمكة في العمل ولم استطع التخطيط ليوم إجازتي.. ترسل صديقتي نورة مجددًا رسائل الدعوة والتأكيد للحضور، التقط هاتفي لأفكر ماذا أكتب؟ كم من الوقت احتاج لكي استعد ولكي اشتري هديتها ثم أذهب لزيارتها.. أثناء أفكاري المتزاحمة تدخل أمي غرفتي لتطلب مني الخروج معها للتسوق، حسنا تبدو فرصة مناسبة للتسوق وشراء هدية لحفلة الليلة.. عند ركوبي لسيارة وتفحص أغراضي وجدت كتاباً قد اشتريته منذ فترة طويلة ولم يسعفني الوقت لقراءته بعنوان الغوريلا الخفية، عند تصفحي السريع وجدت اقتباس في الكتاب» هناك ثلاثة أشياء شديدة الصلابة والصلادة: الحديد والألماس ومعرفة الذات»
أود أن أتواصل مع صاحب المقولة حالاً لأخبره بشيء رابع وهو ضيق الوقت الذي يقسم قلبك ومعدتك ودماغك إلى عدة أقسام بكل صلابته ويرى كيف أنني أركض لإنجاز كل شيء ولكني لا أنجز شيئاً في الوقت نفسه.. وعن وصلابة الأفكار البائسة في عقلي التي تدور حول عمل الغد ومتى يجب أن أنام واستيقظ..
أغلقت الكتاب سريعاً وسوف أعود له في إجازتي المقبلة.. دخلت أحد المتاجر وذهني مشوش لا أعلم ماذا اشتري وهل الورد وشكولاتة تفي بالغرض أم يجب أن اشتري عقداً من اللؤلؤ أم أن شنطة ثمينة سوف تكون هدية رائعة، قررت الاستعجال وإنقاذ ما تبقى من الوقت وذهبت لموظف المتجر سريعاً وطلبت منه أن يقترح لي هدية.
أخرج لي بعض الساعات والمجوهرات النفيسة وظللت أردد في نفسي على سبيل التهوين (سيأتي اليوم الذي تجنين فيه ثمار عمل 6 أيام في الأسبوع وتصبحين ثرية).
نظرت إلى الموظف وطلبت منه هدية بسيطة أخرج لي عقداً من الذهب جميلاً وصغيراً وقال لي باللهجة المصرية «الهدية مش بتمنها الهدية ببساطتها».
ابتسمت له وقلت له هذه هدية لصديقتي وأرجو منك أن تغلفها بشكل جميل..
رد علي قائلاً بلهجته الجميلة مرة أخرى: «عمرك سألتي نفسك هل الأشخاص اللي بتحبينهم، بتحبيهم عشان كويسين للدرجة دي! ولا عشان ماشفتش غيرهم في طريقك»؟
كان سؤاله بمثابة الصفعة على وجهي، لم أتوقعه ولم أفكر فيه من قبل.. ابتسمت له ابتسامة بلهاء مفادها: لا أملك الجواب..
وحين كنت أقلب ذلك السؤال الغريب في رأسي رن هاتفي، كان اتصالاً من أختي تخبرني فيه بأن ابني فارس حرارته مرتفعة ويجب علي أن أعود حالاً لمعاينة وضعه.. اتجهت مسرعة إلى المنزل وأخذته إلى الطوارئ وجدت طابوراً يقف أمام مكتب استقبال المرضى وقال لي الموظف: مدة الانتظار ساعتان.. شعرت في تلك اللحظة أن قواي أنهكت ولم أقو على النقاش، توجهت للانتظار وانتظرت لأرى عزباء تنصح متزوجة بألا تنجب والمتزوجة تنصح العزباء بألا تتزوج وأنا أرقب من بعيد تلك التعاسة في الحوار في صمت لأرى في الجهة المقابلة أُناساً يسألون عن بعضهم ليتأكدوا من هو أشقى منهم فيطمئنوا..
تمر دقائق هذا اليوم ببطء شديد بعد أن كانت تتسابق في جريها.
وتأتي الساعة 12 ونصف بعد منتصف الليل ويأتي دور ابني
لتعاينه الدكتورة وتخبرني بأن وضعه مستقر ولا داعي للقلق، انتهيت من سباقي مع الزمن وأخذت هاتفي المحمول لاعتذر لنورة عن تأخري وعدم حضوري لعيد ميلادها.. لأفاجأ أنها قامت بحظري من جميع البرامج ولم يعد لها أثر..
سأعود يوماً لبائع المتجر لأخبره أن الصديق ليس الصديق الذي ترافقه في مقاعد السينما أو الذي يشاركك طعام العشاء
هو أول رقم يتبادر إلى ذهنك حين تقع في مشكلة، والذي يقرر أن يخوض معك المشكلة حتى تخرج بسلام.. أو قد لا تخرج!
وسأذهب يوماً ما إلى انتظار الطوارئ لأخبرهم أن تجارب العلاقات لا يجب أن تعمم، المتزوج أو الأعزب لكل منهم تجاربه المختلفة والوقوف وحسد الآخرين على أماكنهم سيزيدك تعاسة وتجربتك السيئة لا يجب أن تقف عندها، بل تتجاوزها، وأن الشجاعة ليست أنت تتخذ القرار فحسب، بل أن تتخذ القرار رغم مخاوفك.
وإن العدل هو أن أخذ يومين إجازة في الأسبوع مثل أي كائن بشري على سطح الأرض.
** **
- سديم العمري