اشتقت إلى مدينة أعماقي
رغما عني اشتقت إليها
مارس الشوق مهارة الإغراء لزيارتها
حملت أمتعتي على مطية خاطري
وصلت إلى مدينة أعماقي بعدما جثم الليل في مجثمه!!
أعماقي تشبه كل المدن الكبيرة الموحشة في المساحة والميادين والمباني والحدائق والطرقات
إلا أنها خالية، أطلال تتزاحم فيها الأشباح!!!
صرت أتسكع في ليل مدينة أعماقي بين شوارعها التي بلا أسماء لوحاتها محطمة وقد تبعثرت فيها حروف عناوينها!!
هنا رأيت وما التقيت!
هنا أصغيت وما سمعت!
هنا بكيت وما ضحكت!
هنا أنا تائه وشريد وأنياب الصقيع تنهش في عظامي!!!
سيدتي
يقولون أنك هنا... باقية هنا!!
ولكن لا شمعة ولا معطف. ولا حضن لديك من أجلي!!!
بت أخاف إن مررت بصمتي المبحوح وألقيت عليه حجارة من أغاني نهارك الجديد فيزداد صمتي الأخرس صمتا!!!
وفي آخر هذا الليل
أسير في مدينة أعماقي الموحشة حائرا لا أعرف من أين .... ولا إلى أين....!!
وبعد أن تقاسم الإعياء والضجر كل ما فيّ وقفت عند باب بيت جديد!!
بيت ما كان ضمن البيوت التي كانت مبنية في مدينة أعماقي!!!
بيت من الرخام والزجاج والخشب الفاخر
إنه البيت الوحيد المضاء في المدينة...!
من بنى هذا البيت بعدي في مدينتي!؟
أتأمل الباب الكبير رغم النقوش الرقيقة الناعمة على الباب والأسوار إلا أنها بدت لي قاسية
وأحواض الورد رغم أنها الورود فيها زاهية والمصابيح تشع بين أغصانها الدفء إلا أنها بدت لي تشبه أشواكا أدمت خطواتي الحائرة في ليلة الضياع!!
تسلقت نظراتي السور والجدار وحلقت بي حتى وصلت النافذة فرأيت سيدة البيت نائمة وشالها الحريري يلتف على شعرها الحرير الدف حولها وقوارير العطر وقلم الكحل حولها.
اشتدت الريح وأنا كعصفور يكاد يتمزق ريش أجنحته من سياطها!!!
فارتطم رأسي بالنافذة آلمني وأيقظ السيدة الحسناء من منامها!!
رأتني والنعاس لا يزال يكحل عينيها وقالت: من أنت؟!
قلت لها: أنت يا سيدة البيت أخبريني من أنا؟
فأنا زائر ليل لا أدري من أنا.. ولا أعرف أين أنا؟ ولا كيف وصلت إلى هنا؟
لا أعرف من كل هذه التفاصيل إلا أنت!!
من أنا.. من أنا.. من أنا؟
قولي يا سيدتي... من أنا؟
ربما أكون كابوسا تاه عن طريق المخاوف في ليل مظلم وارتمى وتسلل إلى غرفة نومك وأحلامك!
ربما أنا لص زارك في آخر هذا الليل ليسرق منك الدف والضياء والنعاس!
اقتربت الحسناء من النافذة وفتحت جزءا بسيطا يسمح بنبرتي المتعبة أن تتكلم مع نبرتها الناعسة
تنهدت ثم قالت: أنت هنا لست اللص...!!
أنت الذي تعرضت للسطو في مدينة أعماقك فسلبت منك أحلامك وألفتك وعشقك وسلبت أنا منك
رغم أنني بعد السطو أمل كنز قلبك!!!
عد يا.... عد يا.... عد يا...!
قلت لها: أنسيتني اسمي وأنا بالنسبة لكِ من أكون؟!
قالت بيدها البيضاء «لا»... وبارتعاش أهداب عينيها الكحيلة الماطرة «لا»!!!
أنا ما نسيت وليتني أنسى وما أظن أنني سأنسى!!
كيف أنسى عازف الصمت... وأيام عازف الصمت... وألحان العمر معه!!؟
ولكن من الجنون أن أكون أنا في الدف والضوء وعلى السرير الوثير وأنت خلف النافذة تمضغ الرياح الباردة أضلعك.... وتشعل العتمة نارها في أهداب عينيك جمرة جمرة!!
ليت الذي بيننا هذا الزجاج لحطمته بيدي وارتميت في أحضانك وبين يديك!!!
بيننا مسافات من اليأس والبعد والفراق لم تُبق بيننا سوى الحنين الصعب!!
عازف الصمت... يا زائر الليل!!
غادر مدينة أعماقك اهجرها واهجرني معها!!!
وأعترف أن مدينة أعماقك تحت الاحتلال وأنك تعيش فيها أقسى أنواع الغربة!!!
أعماقك مدينة لم تعد لك حتى وإن تسورتها لن تكون لك!!!
مدينة أعماقك ما عاد فيها لك أكسجين تتنفسه أنت!!
كربون دخان متصاعد من حرائق حطام أمانيك وأحلامك في كل نواحي المدينة
يملأ رئتي مدينتك!!
عد يا حبيبي أنت!!!
عد يا مهجة قلبي أنت!!!
عد يا عازف الصمت!!!
غادر هذه المدينة بكل ما فيك من الشجن والكآبة!!
مدينة أعماقك مقبرة كل من فيها أحياء يرزقون وأنت الميت الوحيد المنفي خارج أسورها!!
يا لعمق مأساتي فيك حين تكون وصيتي لك أن تنسى أنني ضمن الأحياء في مدينة أعماقك
وأن نعش موتك صنع من أغصان حديقة حلمك فيّ!!
ارحل حبيبي من هنا أليس لك مكان ولا نهار في مدينة أعماقك
إنها مقبرة الأحياء!!
** **
عبدالعزيز حمد الجطيلي - عنيزة
email: ayamcan@hotmail.com
twitter: @aljetaily