في مقالي السابق المنشور في العدد (697) من «ثقافية الجزيرة» تحت عنوان (حين ظننتُ أنني أحبه) حاولتُ بذل المستطاع في سبيل فض الاشتباك بين البعدين الشخصي والفني في التعامل مع شخصية المتنبي قبل توظيفها في صياغة النص الشعري المكتوب بعد مصرع المتنبي بما يجاوز ألف عام، وهي مدة طويلة بما يكفي لتجيير الشخصية التاريخية الأدبية من بعدها الآدمي التقليدي إلى البعد الرمزي الذي يخامر الذهن فيكاد يلامس غلالة شفيفة تحرّض الخيال على مباشرة الأساطير وربما اختلاقها إن أمكن.
إن تتابع الأحقاب بعد مصرع شخصية تنطوي على عبقرية في جانب من جوانب الإبداع قد يأخذ بالإنسان المتأمل أحد مسارين هما في غاية التناقض، فإما أن تكون هذه المدة الزمنية الطويلة مثل النهر الجاري الذي ينفي الأدران العاطفية المتناقضة بما يتيح للدارس أن يعيد النظر في سيرة الشخصية المقصودة على الوجه الذي يحتفظ بأقصى درجات الموضوعية خارج هالات التقديس، وإما أن تكون هذه المدة الزمنية الطويلة شيئاً يشبه النافذة التي يطل منها الإنسان على عالم الأوهام والأحلام مصداقاً لقول الشاعر:
ثُمَّ انقَضَت تلك السُنونُ وأَهلُها
فَكَأنَّها وكأنَّهُم أحلامُ
عندئذ تصير الشخصية التي نسمع عنها قاب قوسين أو أدنى من عالم الأساطير، لأن الخيال هو الذي يتولى رسم ملامحها وترسيخ العناصر الحيوية المحيطة بها.
فإذا اختار الدارس المتأمل أن يسير في المسار الأول فإنه سيعمد إلى اقتناء ما يستطيع أن يقتنيه من كتب ودراسات موضوعية موثقة تناولت الشخصية التي يريد إعادة النظر بشأنها.
ولا شكَّ أن ألف عام مدة زمنية كافية لتكوين ركام هائل من أوراق الكتب والدراسات. والرسائل التي تسعف الإنسان الراغب في وضع الشخصيات التاريخية في إطار منصف يخلو من مبالغات الحب والكراهية. أما إذا اختار القارئ المسار الثاني فإن النهاية شبه الحتمية هي اختلاق الأساطير التي يستوي في تغذيتها أباطيل المدح والقدح.
ما أود التأكيد عليه أنني حين أتناول سيرة المتنبي في مقالاتي فإنما أتخذه مضرباً للمَثَل. أما المقصود فينطبق على أي شخصية يمكن أن نعالج سيرتها معالجة ذهنية منطقية، وأما الهدف الأسمى الذي أرغب الوصول إليه فسيتبين للقارئ في نهاية هذه السلسلة من المقالات التي لم أكتبها إلا محاولة لتغيير واقع ثقافي أزعم أنه يستحق التغيير.
إن المبالغة في إطراء شخص ما أمر منهي عنه حتى في ثقافتنا الدينية الإسلامية حتى أن سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن إطرائه وهو أفضل الخلق، فما بالنا بأشخاص لا يمكن أن يبلغوا مقام النبوة ولا شيئاً يسيراً من محامدها المشهورة. ولا شكَّ أن الدين هو الرافد السخيّ الذي تستمد منه ثقافة المجتمعات كثيراً من سماتها وقيمها النبيلة.
وقد لا أبالغ إذا قلتُ إن كثيراً من الانحرافات في تشكيل الرصيد الثقافي لإنسان ما يرجع في أصوله إلى أسلوب ذلك الإنسان في استقبال المعلومات المتداولة حول عصر غابر أو شخصية عاشت في ذلك العصر، إذ يقع الإنسان أسيراً لمعلومة تفتقد للدقة في أصل نشأتها ثم تتعرض هذه المعلومة بمرور القرون لقسط وافر من التحوير والتزوير حتى تصل في زماننا هذا إلى شخص (يقرأ بشراهة دون حذر)، وقد شابتها شوائب الخرافة التي قد نجد أثرها أحيانًا في واقعنا الثقافي والاجتماعي، وقد يتدفق فيضانها إلى جوانب أكثر حساسية من جوانب حياتنا المعاصرة.
بعد هذه الومضات التي قدمتها في الفقرات السابقة ربما كان من الملائم أن أقول إنني لن أتحدث مستقبلاً عن الشخصيات التي تكفلت العصور المتعاقبة بالإجابة عن كل ما يثار حولها من ألغاز وروايات استوعبها الزمن جرحاً وتعديلاً، وسأكتفي بالحديث عن المثال الذي يبالغ مريدوه في تنقيته حتى يكاد يتلاشى من الواقع ليصبح شخصية أسطورية يجني عشاقها دون قصد على واقعنا الثقافي والاجتماعي، فإلى اللقاء في المقال المقبل إن شاء الله تعالى.
ملحوظة لغوية: في مقال (حين ظننتُ أنني أحبه) وردت عبارة على هذا النحو (إلى سؤال آخر أشدُّ انسجامًا) بضمة على الدال المشددة في كلمة (أشد)، وهذا خطأ سببه استعجالي في الكتابة على الجهاز، والصواب (أشدَّ) بفتح الدال، لأن الكلمة ممنوعة من الصرف وقد جاءت صفة لمجرور (سؤالٍ)، ولست هنا في مقام الحديث عن سائر التفاصيل النحوية لهذه الكلمة غير أنَّ الواجب عليَّ إجمالاً هو تصحيح العبارة.
** **
- فهد أبو حميد