الطفولة مرتبطة بحب المغامرة، لأنها مرحلة متقدمة عن التفكير في العواقب، يغلب الفضول فيها الخوف، وينتصر طلبُ المتعة على تجنب التبِعة.. حتى عند الحيوانات، ترى الصغار يتقافزون ويمرحون حول الكبار، وينطلق الأجرأُ منهم إلى خارج منطقة الأمان، فيضيع، ويصبح ضحيةَ جرأته، أو يظفر برحلةٍ مستكشِفةٍ محفوفةٍ بالمخاطر قبل أن يدركه أحدُ والديه.. المغامرة إذن سلوك فطري، كأنما هي ضرورة لشَغل هذا العالم الواسع، المدهشِ بكل تفاصيله، يستحثُّ معنى الطفولة فينا -نحن الكبار- ، ويأخذنا إلى مزيدٍ من المغامرات وإن كان في شيءٍ من الحذر والتعقّل، وفي زاجرٍ من التجارب.
تخبو شعلةُ الدهشة عند الإنسان شيئاً فشيئاً كلما تقدم به العمر، يبهتُ ضوء الشمس، ويخفُتُ سطوعُ القمر.. يُشبه جريانُ النهر عبورَ الدهر، وتغدو الصناديقُ المُغلقة كالمفتوحة، والغابةُ البعيدة كساحة الدار، يقتات على الحنين، كأنما يتوقف عن الحياة وهو ما يزال حياً! وقد قال الأديب أحمد حسن الزيات - رحمه الله - : «إن الشيخ كما ستعلم بعدُ يعيش بالذكرى، كما يعيش الشباب بالأمل». وقال شاعر:
وأنكرتَ نفسك لما كبرتَ
فلا هي أنتَ.. ولا أنتَ هيْ
وإن ذُكرتْ شهواتُ النفوس
فما تشتهي غيرَ أن تشتهي!
لكني أتصور أن بإمكان الإنسان أن يقاوم هذا الإحساس، وأن يتشبث بإحساسه بالحياة، إذا لم يكن بالدهشة، فبمزيد من التأمل، واحتضان اللحظة الراهنة، وتفحّصِ التفاصيل الجميلة في النفس والكون، والانخراط في عملٍ يحبه، يُحدثُ به أثرًا في نفسه، وفي محيطه، ومجتمعه، ويغطي مساحاتِ الفراغ التي كلما اتسعت كانت عونًا عليه مع الأيام.
أعود من هذا الاستطراد الذي جرّنا إليه معنى المغامرة، أعود إلى ابن القرية، وإلى مغامرةٍ من أخطر مغامراته: ترى في كل قرية من قرى جنوب المملكة وبين البيوت الحديثة بيوتًا من الحجر، أو من الحجر والطين، هي بيوت الأجداد، كلما مضى الزمان تناقصَ الذين أدركوها من سكان القرية أيامَ كانت تعجّ بالحياة، كانت مسكنَهم، وهي الآن تسكنهم! كلما درجوا حولها استيقظت من زواياها ذكرياتٌ عزيزة، وحرّكت في قلوبهم مشاعرَ كامنة، فهي تشدهم إلى ماضيهم، بأحداثه، وقيَمه الأصيلة .. هي الصلة الحية، والميثاق الصامت، بينهم وبين ميراث الأجداد. وقد كان لابن القرية هذا رفقةٌ طموحة، لم تمنعها براءةُ الطفولة من أحلام الثراء! وذاتَ يوم، أزمعَ الأصحاب أن يُنقّبوا عن الكنوز في هذه البيوت القديمة، نعم الكنوز! في تلك البيوت التي لم تكتنز بغير الثعابين وهوامّ الأرض!
وفي الساعة المحددة، قصدوا أطول البيوت، كان ذلك الطلل البالي في غابر الزمان قصرًا منيفًا.. راحوا يتسلّقونه بشغف، وكان صاحبكم أصغر القوم، وفي أعلى البيت، في الجزء الذي كان السقف سابقًا يقوم عليه، قبل أن ينهار بمَعاول السنين، كان صاحبكم يُمسك بحجر ليصعد، فهوى الحجر، وحاولَت القدم الصغيرة أن تجد لها موطئًا يمنعها من السقوط، ولكنه هوى وراء الحجر! كانت المسافة من أعلى البيت لأسفله حوالي ثمانية أمتار.. لكن من لطف الله به أن جذوع الشجر الساقطة التي كانت تُمسك سقف البيت كانت موزعةً بحيث سقط على هذا وارتدّ إلى ذاك، حتى وصل -بحمد الله- إلى القاع، وهو بالكاد يلتقط أنفاسه بسبب الاصطدام العنيف بالأرض.. كان أحد رفاقه يراه وهو في رحلة السقوط، فصاح -مشكورًا- : بسم الله، مادًّا بها صوته إلى أن وصل إلى الأرض.
تحلّق رفقاء الأحلام وأصدقاء الطموح حوله مشفقين، وهو ممزق الثياب، مُغبرُّ الإهاب، وقد رضوا من الغنيمة بالإياب! وعاد هو يجرُّ خُطاه دون أن يبُثَّ شكواه، فالشامتون المتربصون كثير.. أخذ يتألّمَ بصمت، وأخفى الحدثَ حتى عن أمه خوفًا من العقوبة! مثلما فعل يومَ (عُشّ الدبابير) «وتلك حكاية أخرى قد يحكيها يومًا ما»، ومضى بعد ذلك في حياته وقد تعلّم أن طريق الآمال محفوفٌ بالمخاطر! وأنّ عليه أن يُؤمِّن طريق العودة قبل أن يخطوَ خطوةً للأمام! وأنّ (خمسةَ عشرَ رجلًا ماتوا من أجل صندوق!).
** **
- منصور بن إبراهيم الحذيفي