- 1 -
أعلن الروائي السوداني الراحل الطيب صالح في مرحلةٍ ما تركَ الكتابة، ثم سُئل بعد حين عن السبب فقال: «لقد قلتُ إنني تركتُ الكتابة الروائية، وربما كان ذلك في لحظةٍ من لحظات التعب، ولكن هذا الكلام لا يؤخذ على أنه رأيي النهائي، فأنا لم أعتزل الأدب، ولم أتوقف عن الكتابة، فالأديب لا يعتزل الكتابة، لكنه ربما يتوقف بين الحين والآخر، حتى يقدم جديداً، وأنا شخصياً أكتب حسب مزاجي، وأحب أن أتوازن مع نفسي، فالكاتب ليس مصنعاً يُنتج باستمرار دون توقف».
لم يكن الطيب صالح أول من أعلن التوقف عن الكتابة ولم يكن الأخير، فقد سبقه وتبعه كثيرٌ من الكتّاب والأدباء والنقاد والمشتغلين في حقول الفلسفة والفكر والثقافة، منهم من التزم بما أعلن فغاب غياباً تاماً، ومنهم من عاد بعد حين، ولكلّ واحدٍ منهم منطلقات وغايات تستحق النظر والمراجعة، لكن الذي استوقفني في إجابة الطيب صالح إشارته المهمة إلى أنّ الكاتب «ليس مصنعاً يُنتج باستمرار دون توقف» !
في المقابل يقرّر كثيرون بمثاليةٍ ثقيلة أنّ الكاتب لا يمكن أن يعتزل الكتابة؛ (فقط) لأنّ الكتابة تراكمية، تكبر بتقدم التجربة وتزداد ثراءً، ويفسّر هؤلاء كل اعتزال أو توقف بأنه ناتجُ اضطرارٍ لا اختيار، أو بأنه توقفٌ عن النشر لا عن الكتابة، أو بأنه توقف مؤقت ستتلوه عودة لا نهاية لها، بل إن بعضهم لم يجد حرجاً في السخرية من إعلان الاعتزال أو التوقف، كما فعل الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي حين وصف إعلان أدونيس اعتزالَه الشعر في نهايات عام 2010م بــــ «الفرقعة الإعلامية» و»الخلو من المعنى» !
- 2 -
لا أدري لمَ يتجاهل الطرفان أن التوقف عن الكتابة (اختياراً أو اضطراراً، بشكل دائم أو مؤقت) تعبيرٌ ضمني عن وعي ناضج بفعل الكتابة وإحساسٍ عالٍ بقيمتها، وأنه تعبيرٌ عن موقف من الذات، أو من التجربة، أو من السياق الثقافي العام، أو من شكل التفاعل، أو من الموضوعات الملحّة، أو من الجدوى ... إلخ، لا أدري لمَ يستبعد الطرفان خيارَ التوقف من جملة الخيارات المتاحة للكاتب، على الأقل من باب (الخيارات الخاصة)!
أدونيس – مثلاً – حين أعلن توقفه عن كتابة الشعر اختصر دوافع هذا الموقف باكتمال تجربته الشعرية، وهو لا يقرأ في اكتمال التجربة المعنى الإيجابي فقط، بل يقرأ فيه تعذّر النمو مع إمكانية التراجع والنقص، وعليه فالاكتمال هنا حالة نهاية لا يناسبها إلا التوقف. يمكن أن نتفق أو نختلف مع هذه النظرة، لكن ليس لأحد الحق في تجاهل الموقف الذي تعبر عنه، حتى لو لم يلتزم به الشاعر.
نجيب محفوظ كان قد قطع مسافة مهمة من تجربته الروائية حين اختار التوقف في عام 1952م ولمدةٍ تجاوزت خمس سنوات، وقد أفضى وقتها إلى صديقه علي الراعي بقوله: «لقد انتهيتُ بوصفي مثقفاً».
لماذا انتهى (محفوظ) بوصفه مثقفاً؟ ولماذا تبنى هذا الموقف في عام 1952م العام الذي مثّل انعطافة كبيرة في السياق الثقافي المصري؟ ولماذا عاد بعدها؟ ولماذا كان أقوى بعد عودته؟ أسئلة كثيرة تعبّر – مجتمعةً – عن استناد هذا التوقف إلى موقفٍ ما، له علاقة بالحدث وتداعياته، أو بالسياق الجديد وتوقّعاته، أو بالتجربة الحية وما ينتابها من قلق وهواجس. (للاستزادة انظر: علي بن تميم، النقاد ونجيب محفوظ).
وثمة أدباء وكتّاب استخدموا ورقة التوقف للتعبير عن الرفض أو الاحتجاج، في أمرٍ خاص أو عام، وعادة لا يصدر هذا الموقف إلا عن كاتبٍ شديد الحساسية سريع الانفعال، وحتى هذا النوع من التوقف يعبّر عن موقف، ونجده غالباً لدى الشعراء كما في حالة الشاعر عبدالرحمن شكري.
- 3 -
جميع الحالات السابقة تصدر عن وعي، وتعبر عن موقف، وهي جزء مهم من تجربة الكاتب، وجزء مهم من خيارات الكتابة، ولا يستخف بها إلا من اختصر فعل الكتابة في صورته الإجرائية، التي لا تتجاوز حشر الكلمات على الورق، ونشرها في موقعٍ من صحيفة أو مجلة!
إنني لا أدافع هنا عن الذين أعلنوا توقفهم عن الكتابة لأي سبب بقدر ما أتساءل عن الذين لم يفعلوا، وظلوا حياتهم كلها يكتبون وينشرون، ويجدون في أنفسهم الرغبة والقدرة على الكتابة في جميع الظروف، وفي جميع السياقات، وبجميع الأشكال والوسائط!
مثل هؤلاء يعنيهم – أو هكذا يبدو لي – تسجيل الحضور الشخصي أكثر مما تعنيهم الإضافة؛ لذلك يكتبون في كل شيء تقريباً، وقد تصل بهم الحال أحياناً إلى الكتابة عن اللاشيء!
- 4 -
وصلتني قبل أيام أبياتٌ (وظيفية مباشِرة) لا يمكن قبولها إلا من مبتدئ في محاولته الأولى، لم يستوقفني فيها إلا تذييلها باسم شاعر حداثي كان يوماً ما ملءَ السمع والبصر!
واطلعتُ قبل أشهر على مقالة باردة عن اختلاف النقاد حول قصيدة النثر، وشدني أنّ المقالة منشورة قبل سنتين، باسم ناقد كان في يومٍ ما الأسبقَ إلى القضايا الجديدة والمعقّدة!
وثمة كاتب عربي كبير لم يكن من السهل على المتابع تجاوز ما يكتبه في الشأنين: السياسي والاجتماعي، اختار الاستمرار في الكتابة حتى توقفت عنه، فصار يكتب كلاماً بلا معنى!
لقد مال هؤلاء جميعاً – أو هذا ما أراه - إلى استخدام الكتابة بدلاً من خدمتها، وانحازوا إلى الحضور المادي على حساب القيمة والمعنى، وانتهوا إلى النقطة التي انطلقوا منها، مبتدئين لكن بأسماء كبيرة، وغرباء حتى عن تاريخهم الشخصي!
** **
- د. خالد الرفاعي