تركَ الإمامُ العلَّامةُ أحمد بن فارس اللُّغويّ (ت395هـ) تراثًا عظيمًا، ضمَّ تآليفَ حسنةً، وتصانيفَ بديعةً، من الكتب المفيدة والرَّسائل النَّافعة(1). ومن هذه الآثار كتابا «اللَّيل والنَّهار» و«قَصص النَّهار وسَمَر اللَّيل»، اللذان التُبِسَ في أمرهما، واشتُبِه في حقيقتهما، فارتأينا في هذه المقالةِ أن نُقرِّرَ بما تهيَّأ لنا من أدلَّة علميَّة أنَّهما مؤلَّفان لا مؤلَّفٌ واحدٌ لابن فارسٍ رحمه الله تعالى. واللهَ نسأل التَّوفيق والسَّداد.
المسألة الأولى: حديث التَّوثيق
سلك أصحابُ كتب الفهارس والأدلَّة، وأهل التَّراجم والطَّبقات عنوانَينِ في جملة آثار ابن فارس اللُّغويّ (ت395هـ)، أحدهما: «اللَّيل والنَّهار» والآخَر: «قَصص النَّهار وسَمَر اللَّيل». أمَّا الأول فقد أطبقوا على سرده ضمن مؤلَّفاته، فذكره ياقوت الحمويّ (ت626هـ)(2)، والصَّفديّ (ت764هـ)(3)، والسُّيوطيّ (ت911هـ)(4)، وشمس الدِّين الدَّاوديّ (ت945هـ)(5)، وطاش كبري زادة (ت968هـ)(6)، وحاجي خليفة (ت1067هـ)(7)، وإسماعيل باشا البغداديّ (ت1399هـ)(8).
وأمَّا الثَّاني فلعلَّ كارل بروكلمان (ت1956م) هو أول من نصَّ عليه، فقد ذكر وجود نسخةٍ مخطوطةٍ منه في مجموعٍ بمكتبة لايبزيك (780) رقم (4)(9). وعن بروكلمان نقل الشَّيخ عبد السَّلام هارون (ت1408هـ)(10)، والدُّكتور رمضان عبد التَّوَّاب (ت1422هـ)(11).
المسألة الثَّانية: اتجاهات التَّجنيس
تختلف كلمة الباحثين والدَّارسين في حقيقة هذين المؤلَّفَين، أهما اسمان لمسمًّى واحد أم لمسمَّيَينِ مختلفين؟ على عدَّة اتجاهاتٍ ومذاهبَ، فقد نصَّ الشَّيخ عبد السَّلام هارون على ذكرهما مستقلَّينِ، مقتصرًا بالتَّعقيب على «اللَّيل والنَّهار» بقوله: «ولعلَّه قَصص النَّهار وسَمر اللَّيل»(12). بينما نجد أنَّ الدُّكتور رمضان عبد التَّوَّاب قد عقَّب في تحقيقه لكتاب «المذكَّر والمؤنَّث» على كلٍّ منهما بعد ذكره إيَّاهما منفصلَينِ بما يدلُّ على تشكيكه في استقلالهما، فقال عن «قَصص النَّهار وسَمر اللَّيل»: «لعلَّه كتاب اللَّيل والنَّهار»(13)، وقال عن الأخير: «لعلَّه كتاب قَصص النَّهار وسَمر اللَّيل»(14). ولكنَّه عاد في تحقيقه لكتاب «الفرق»، ونصَّ على ذكرهما منفردَينِ أيضًا، دون أن يعقِّب عليهما بشيءٍ(15)؛ لاحتمال وقوفه لاحقًا على ما أثبتَ له أنَّ كلًّا منهما كتابٌ مستقلٌّ برأسه.
وأمَّا الأستاذ هلال ناجي (ت2011م) فقد ذكر ما يُوحي بوَحدة مسمَّى المؤلَّفَين عنده، إذ اكتفى بذكر «اللَّيل والنَّهار»، معلِّقًا عليه بوجد نسخة مخطوطة منه بعنوان: «قَصص النَّهار وسَمر اللَّيل»؛ مستندًا في ذلك إلى نصِّ بروكلمان(16). وبمثله فعل الدُّكتور زُهير عبد المحسن سلطان(17). واقتصر الأستاذ أحمد حسن بسج على إيرادهما كلًّا على حِدَةٍ في مَسرد مؤلَّفات ابن فارس دون أن يُتبِعَهما بشيءٍ من تعليقٍ أو بيانٍ(18).
وأمَّا الأستاذ حامد الخفَّاف فقد تساءل متعجِّبًا بعد إيراده نصَّ بروكلمان: «ولستُ أدري هل أنَّ النُّسخة المذكورة بعينها «كتاب اللَّيل والنَّهار» أم لا؟ وإذا كان كذلك فما هو السَّبب في تغيير اسم الكتاب المثبَّت في أغلب المصادر القديمة؟!»(19).
المسألة الثَّالثة: موارد الاشتباه
تراءى لنا أنَّ ثَمَّ مواردَ اكتنفت مسيرةَ المؤلَّفَين، أسهمت في اشتباه حقيقتهما، والتباس أمرهما على كثيرٍ من الباحثين والدَّارسين. منها:
أولًا: تقارب العنوانَينِ في الألفاظ، واحتمال تعدُّدهما لمسمًى واحد؛ لذيوع هذه الظَّاهرة في التُّراث العربيّ، وشيوع أمثلتها في المؤلَّفات العربيَّة، نحو: (رسالة في معرفة لفظ جلبي لأبي السُّعود أفندي ت982هـ)، التي أُورِدَ لها ثمانية عناوينَ(20).
ثانيًا: تعذُّر المقارنة بين المحتوَيَينِ، والموازنة بين المضمونَينِ؛ ليتسنَّى الحكم عليهما بالتَّماثل والتَّطابق أو بالتَّباين والتَّغاير؛ لأنَّ كتاب «قَصص النَّهار وسَمر اللَّيل» كان –وما زال- في عداد المفقود من التُّراث سوى تلك اللَّوحة الباقية منه حتى الآن.
ثالثًا: غياب الورود في المصادر القديمة، والتَّفرُّد بالنَّصّ على «اللَّيل والنَّهار» دون الآخَر، إلى زمن متأخِّر، فظُنَّ أنَّه عنوانٌ آخَر له، حتى إفصاح بروكلمان عن وقوفه على نسخةٍ مخطوطةٍ منه.
المسألة الرَّابعة: شواهد التَّباين
لم يكن ليُقطَع بالحكم على تباين محتوى المؤلَّفَين، والإقرار بأنَّهما مؤلَّفان لا مؤلَّفٌ واحدٌ، لولا الوقوف على اللَّوحة الفريدة النَّاجية من هذا الكتاب «قَصص النَّهار وسَمر اللَّيل»، التي زفَّ إليَّ صورتَها -مأجورًا مشكورًا- الأخُ الفاضل الباحث رياض كامل الزَّيديّ، وهي على الرَّغم من وَحدتها كشفت لنا عن حقيقةٍ كانت موضع التباس واشتباه على مرِّ السِّنين، وأثبتت تغايرَ المؤلَّفَين، وأقرَّت أنَّ «اللَّيل والنَّهار» غير «قَصص النَّهار وسَمَر اللَّيل».
ويمكننا إجمال هذه الشَّواهد فيما يأتي:
أولًا: تمايزُ العنوانَينِ واختلاف عبارَتَيهما مبنًى ومعنًى، دلالةٌ على أنَّ «اللَّيل والنَّهار» غير «قَصص النَّهار وسَمَر اللَّيل»؛ لأنَّ الأصلَ في الأسماء التَّباينُ حتى يثبت ترادفها، وأنَّ المتبادرَ إلى الذَّهنِ من المفهوم التَّغايرُ حتى ورود وحدتهما وتساويهما.
ثانيًا: اختلاف المضمونَينِ وتغاير المحتوَيَينِ، فكتاب «اللَّيل والنَّهار» في أدب المفاخرة، أعني المفاخرة بين اللَّيل والنَّهار، والمفاضلة بينهما، قال ابن فارس في سبب تأليفه: «سألني فتًى من أهل الجبل -جبل الماهَيْن- أن أُثبِتَ له ورَقاتٍ في ذكر اللَّيل والنَّهار، وما يصلح أن يفضل به أحدهما على الآخَر ويسوَّى، فارتجلتُ كُتَيِّبي هذا مُسعِفًا له به»(21).
أمَّا كتاب «قَصص النَّهار وسَمَر اللَّيل» فهو كتابٌ في القَصص والأسمار؛ بناءً على مضمون اللَّوحة الفريدة الباقية منه، التي أوردت قصةَ وفادة الأعشى على النَّبيّ صلى الله عليه وعلى أزواجه وذرِّيَّته وسلَّم.
ثالثًا: تكاملُ النَّظيرِ الموجودِ المحقَّقِ، المتمثِّل بكتاب «اللَّيل والنَّهار»، وخلُّوه من السَّقط والنَّقص، وسلامته من الثُّلَم أو الاختلال الذي قد يُوهِمُ أن تكون هذه اللَّوحة الفريدة تتميمًا لذلك النَّقص، ودليلًا على تآلفهما معًا في بناء كتاب «اللَّيل والنَّهار» وإشعارًا بوحدته وكماله. وأمَّا أمارات هذا التَّكامل فيه -أي: في «اللَّيل والنَّهار»- فهي:
1. التَّعقيبة المعتمَدة في نُسخته الخطيَّة الفريدة المحقَّقة.
2. تتابع النَّصِّ وتماسكه ووَحدته من أوله حتى منتهاه.
3. الخلوُّ من الفراغات في المبنى، وانتفاء الفجوات المعنويَّة في المضمون.
رابعًا: مناسَبةُ القول بالتَّباين والتَّعدُّد، وملاءمتُه للمأثور عن ابن فارس في الإكثار من التَّأليف والتَّصنيف، قال أبو القاسم القزوينيّ (ت623هـ) في ترجمته إيَّاه: «وصنَّف من المختصَرات ما لا يُحصَى»(22). وقال ابن الصَّلاح (ت643هـ): «قال الشَّافعيُّ بن أبي سليمان المقرئ: بلغني أنَّ أبا الحسين ابن فارس لمَّا كان بقزوينَ يُصنِّفُ في كلِّ ليلة جُمعةٍ كتابًا، يبيعه يومَ الجمعة قبل الصَّلاة، ويتصدَّق بثمَنه، فكان هذا دأبُه»(23). وقد سعى المحقِّقون إلى تتبُّع آثاره وإحصائها، فأحصى له الشَّيخ عبد السَّلام هارون (54) مؤلَّفًا، والدُّكتور رمضان عبد التَّوَّاب (56) مؤلَّفًا، والأستاذ هلال ناجي (55) مؤلَّفًا، والدُّكتور زُهير عبد المحسن سلطان (66) مؤلَّفًا، والدُّكتور هادي حسن حمُّودي (57) مؤلَّفًا، وأورد الأستاذ عبَّاس هاني الجرَّاخ مستدركًا على الأخير يضمُّ (33) مؤلَّفًا(24).
ننتهي من هذا كلِّه إلى أنَّ «اللَّيل والنَّهار» و«قَصص النَّهار وسَمَر اللَّيل» مؤلَّفان لا مؤلَّفٌ لابن فارس رحمه الله تعالى! والله أعلى وأعلم.
ــــــــــ
الهوامش:
(1) انظر: إنباه الرُّواة: 127/1.
(2) انظر: معجم الأدباء: 412/1.
(3) انظر: الوافي بالوفيات: 182/7.
(4) انظر: بغية الوعاة: 352/1.
(5) انظر: طبقات المفسرين: 61/1.
(6) انظر: مفتاح السَّعادة: 110/1.
(7) انظر: كشف الظُّنون: 1454/2.
(8) انظر: هدية العارفين: 69/1.
(9) انظر: تاريخ الأدب العربيّ: 267/2.
(10) انظر: مقدِّمة معجم مقاييس اللُّغة: 34.
(11) انظر: المذكَّر والمؤنَّث: 24.
(12) مقدِّمة معجم مقاييس اللُّغة: 34.
(13)، (14) المذكَّر والمؤنَّث: 24، 25.
(15) انظر: كتاب الفرق: 34- 35.
(16) انظر: أحمد بن فارس حياته- شعره- آثاره: 47.
(17) انظر: مجمل اللُّغة: 27/1.
(18) انظر: الصَّاحبي في فقه اللُّغة العربيَّة: 6- 7.
(19)، (21) اللَّيل والنَّهار: 10، 17.
(20) انظرها بتحقيقنا: مجلة آفاق الثَّقافة والتُّراث، السنة (24)، العدد (96)، 1438هـ/2016م: 157- 158.
(22) التَّدوين في أخبار قزوين: 215/2.
(23) طبقات الفقهاء الشَّافعيَّة: 657/2.
(24) انظر: مقدِّمة معجم مقاييس اللُّغة: 34، وكتاب الفرق: 34- 35، وأحمد بن فارس حياته- شعره- آثاره:47، ومجمل اللُّغة: 27/1، وحماسة أبي تمَّام بتفسير أحمد بن فارس: 20، ومخطوطة حماسة أبي تمَّام بتفسير أحمد بن فارس بين النَّصّ المحقَّق والأصل المخطوط: 108.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق، كركوك