بقدر ما قست بعض المجتمعات القديمة على المرأة، وتعاملت معها ككائن من الدرجة الثانية أو ربما أقل من ذلك. بقدر ما نجد أنه كان في بعضها حضور قوي وفاعل لعدد من النسوة المميزات خلد التاريخ سيرتهن، ككليوبترا مصر، هيلين طروادة، بلقيس سبأ، زنوبيا الشام.
وحين ننظر إلى دور المرأة هناك، نجد أنه قد مُورس عليها الإقصاء عن المشاركة في نواحي الحياة المختلفة، وبما لا يتناسب مع إمكاناتها المتعددة القدرات كما خلقها الله، واقتصر دورها على كونها مجرد رحمٍ ينجب الأطفال، وطاهية للطعام، وعاملةٍ في المنزل. لا يُشركها الرجل في شؤون الحياة المهمة كالسياسة والثقافة والفكر والدين والعلم.
منذ مجيء المرأة إلى الدنيا كطفلة، ثم صبية، ثم مراهقة، ثم امرأة ناضجة، فهي محاطة بالرجل، والذي يكون عادة هو من يقرر مصيرها، ويطلق أحكامه المسبقة عليها، ولهذا فمن الصعب جدًا أن تتجاهل المرأة رأيه عنها ورؤيته لها.
وإذا كانت المجتمعات القديمة تنظر لها بعين الانتقاص فإنه سيظل هناك أيضاً عبر العصور ولا يمكن أن يعترفوا بقدرتها على مشاركتها لهم في مختلف أنشطة الحياة، ولا أن يعتقدوا بأنها تماثلهم أو ستماثلهم في الفكر والثقافة والذكاء، ولست أعمم، خاصة في العقود الأخيرة حيث بات للمرأة صوت مسموع، ورأي محترم، وحضور قويٌ ومميز، وأصبح الرجل الواعي هو من يدعمها في إثبات ذاتها في المجتمع وتحسين نظرة بني جنسه إليها. ولأنها ترى في نفسها القوة التي يعجز بعض الرجال عن إدراكها، فهي تضطر أحيانا إلى الدفاع عن نفسها، وتكوّن ردة فعل دائمة التبرير عند من يصفها بالضعف والنعومة.
وإن كنت لا أرى من داعٍ في نظري للتبرير، إذ بإمكانها إثبات قوتها الفكرية، من خلال تفوقها وإبداعها في ذات المجالات التي نجح فيها الرجل وبصمت. نعم لقد نجحت المجتمعات القديمة في التقليل من دور المرأة، مما دفعها لاقتحام الساحات الثقافية التي كانت مقتصرة على الرجل، لتثبت بأنها تملك الملكات الفكرية والثراء الثقافي الذي يؤهلها لولوج تلك الساحات. وليس صحيحا أنها بمشاركتها للرجل في الساحات الثقافية، نسيت أو تجاهلت التعبير عن كينونتها والتباهي بقوتها الأساسية (العاطفة، والولادة، والألم)، بل هي تثبت بأنها قادرة على أن تكون طرفا فاعلا في الحراك الثقافي فهي توظف عاطفتها وألمها لتكوّن مادة أدبية تعبر من خلالها عن ذاتها وتترجم حالاتها، وتساهم في زيادة وعي الرجل بالمرأة وتعرفه عن كثب على نصف المجتمع الآخر، وإن كنت أرى أنها أم المجتمع كله في الحقيقية وليست نصفه فقط. وليس في انتقال المرأة من البيت والإنجاب ودور الأمومة، إلى ميادين الفكر والثقافة، ما يجعلها تظن أنها منزلة دونية عن الإنتاج الفكري واعتبار أنه هو سمة عليا فوق الأمومة والإنجاب. فالمرأة المثقفة حقًا الواعية المستنيرة فعلا، لا ترى أن الإنجاب وممارسة دور الأمومة ينتقص من دورها أو يقلل من مكانتها. وكم رأينا من أديبات عظيمات لم يصرفهن الاشتغال بالأدب والثقافة، عن كونهن أمهات رائعات وزوجات صالحات ومثقفات مبدعات.
الثقافة تسمو بالمرأة، والأمومة تشريف لها، كما لا أعتقد أن بوسع المرأة التحرر من وصمة المجتمعات التي تشنع عليها ذكر دورها البيولوجي الأسمى الذي أقامت به أممًا واستقامت به دورة الحياة في أدبها على الأقل في القريب المنظور. إذ تظل تكتب في ظل خطوط حمراء لا يسعها تجاوزها إن شاءت تجاوزها، وبعض الأديبات يمتنعن من تلقاء أنفسهن نتيجة تربيتهن المحافظة واحترامهن للتقاليد والفكر المجتمعي السائد الذي قد يسيء فهمها، ويحرف ما تكتبه عن مقصده. وكلما زاد وعي المجتمع زادت مساحة حرية المرأة في التعبير عن مكنوناتها، والكتابة بأريحيةٍ عن كل شؤونها، فليس أمام المرأة من سبيل للتحدث عن نفسها وذاتيتها إلا من خلال زيادة وعي المجتمع، وتفهمه وتقبله لما ستكتبه.
كما أرى أن هناك عوامل أخرى بالإضافة لنظرة المجتمع ولسانه، ساعدت في مرور المرأة السعودية الكاتبة على تجربتها الأنثوية في الحمل والولادة والنزف والألم الشهري مرورًا لا يذكر، منها عدم قناعتها بالكتابة عن مثل هذه الموضوعات، أو خجلها، وإن كنت شخصيًا لا أفضل تطرقها لهذه الموضوعات بشكلٍ مباشرٍ وفج. نعم لا مانع من ذكر هذه الأمور وبأسلوب أدبي مقنن، ليتعرف الرجل على معاناة المرأة السيكولوجية والفسيولوجية خلال فترة الحمل والولادة والألم الشهري، مما يجعله يحسن التعامل مع تغيراتها الطارئة، دون أن يأخذ تلك التغيرات على أنها خُلق سيء يظهر في المرأة من حينٍ لآخر.
ولست مع تجاوز المرأة الكاتبة للخطوط الحمراء، خاصة في مجتمعاتنا المحافظة، لأن رسالتها التي تريد إيصالها من خلال الكتابة ستضيع حينها، وتفقد تقبل المجتمع؛ وهو الغالب لما ستكتبه. ومما قد يجعل المرأة تترك للرجل تبني مصطلحات الولادة ومشاعر المرأة الخاصة وسردها بصوته ومن منظوره الذي لم يكن له تجربه فيه، هو أن الرجل بفعل ذلك يكون قد كفاها مؤونة مجابهة المجتمع الذي لازال ينظر للمرأة التي تحاول رفع صوتها في بعض موضوعات المرأة الخاصة، بأنها جريئة وناشز ومتمردة ومتحدية للقيم. وقد يتقبل المجتمع حديث الرجل عن المرأة من منظور علمي ويعذره.
** **
- عائشة عسيري (ألمعية)