أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: حديثي اليوم هو إسفارٌ عن عِلْمِ وحياةِ إمامٍ من أئمة الشريعة، لو أدركه الذهبي، أو ابن حجر العسقلاني لسلكه في سمط أفراد العلماء ومجتهديهم، ووصفته بـ(أستاذ الجيل) دون مبالغة؛ لأنه عبَّ من العلم، وعنده ملَكة الحفظ، وملكَة الفكر النادرة، فزهد في التأليف، وتفرَّغ لتخريج الأجيال، وبثَّ العلم بلسانه العذب، وفكره الدقيق المنظَّم، وحافظته المتدفقة، في فصول الدراسة، وفي المسجد، وفي بيته، وعمله.. وما تعنَّى للتأليف كتابةً أو إملاءً إلا في تعليقات وجيزة مسددة على كتب مقررة، أو في تحرير ما تمس إليه الحاجة من غُضَلِ العلم التي تحال عليه من قبل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وكثيرون من حملة العلم الشرعي في بلادي من أبناء الثمانين هم من تلاميذه، أو تلاميذ تلاميذه.
قال أبو عبدالرحمن: لقد كتبتُ مرَّة في صحيفة الجزيرة انطباعاً عن سماحته كان كلمة رثاء بعنوان (إنَّما كان إماماً)، وهذا نصه: ((لا أزال أذكر احتجاج الإمام أبي محمد ابن حزم في رسالته الميزان التي فاضل بها بين الأندلس والقيروان، وقد أوردها المقري كاملة في (نفح الطيب)، وعنون لها بالوصف لا بالاسم على أنها في فضل أهل الأندلس، ثم طبعها الدكتور صلاح الدين المنجد عن هذا الأصل بهذا العنوان في رسالة مستقلة.. وقد احتج في هذه الرسالة على أنَّ من كان من غير أهل الأندلس، وقد عاش فيها ومات بها: فهم (أي الأندلسيين) أوْلى به، وهو معدود من مفاخرهم ما دام من الأعلام الثقافية والعلمية، ومن كان أصلاً من أهل الأندلس ثم استبدل بها داراً أخرى، فعاش فيها، ومات عندهم: فهم أوْلى به)).
قال أبو عبدالرحمن: وعلى هذا القانون تفخر سعوديتنا بعلامتها الإمام سماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه، ولقَّاه ربه الروح والريحان والرضوان، وأدخله فسيح جناته؛ فقد اختار الرياض بلده ومثواه في النصف الأخير من عمره المبارك، وهو النصف الناضج المليء بالعلم والعطاء، ولم يأتِ عبدالرزاق إلى المملكة ليكون سلفياً، وليكون موظفاً؛ بل كان منهجه العلمي في الرياض هو منهجه العلمي بمصر قبل أنْ يدور بخلده أنه سيأتي إلى السعودية؛ بل عندما كانت مصر أكثر خيراً، وقبل أنْ تتدفق عندنا ينابيع الذهب الأسود.. وكان قد نشر كتاب (العلو للعلي الغفار) للحافظ الذهبي (من كتب السلف) من أوائل تحقيقاته المطبوعة القليلة، وذلك عندما كان بمصر بـ(شُبيِّن الكوم)، وكان زملاؤه من أمثال: الشيخ محمد عبدالوهاب بحيري، ومحمد بن راشد، وابن يابس، يقصون أخباره وهو بمصر يخرِّج التلاميذ أكثر مما يخرج الكتب؛ فذكروا عنه علماً، وعقلاً، وعفة، وسلفية، ووصلت أخباره سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم فحرص على استقدامه، وكانت السعودية مقر السلفية، وناشرة علم ابن تيمية، وزينتها الحرمان الشريفان؛ فرغب الشيخ عبدالرزاق في السعودية لهذه الأشياء؛ لأنه سلفي بعقيدته ومذهبه وعقله.. وجاء إلى السعودية على علمه وسجيته، لم يجتذبه طمع في مال، أو جاه، أو منصب، ولعلَّ صدق نيته فيما نحسبه والله حسيبه سبباً في انقياد كل أسباب العز الدنيوي له، وهو لم يطلبها، فكان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق، تتلمذ عليه أبناء ما بين السبعين إلى الثلاثين، ولا يزال تلامذته مربين للأجيال، أهل منابر، وحلقات، وتدريس وتأليف.. والبرهان على أنه ليس طالب مجد دنيوي أنه ما التمس سبيلاً لازدياد كسب مادي غير رويتبه لقاء عمله الوظيفي الذي كرَّس له كل وقته، وما أكثر سبل الكسب المادي لو أرادها.. وبَعُدَ عن الإعلام والإعلاميين بعداً لا هوادة فيه، وما عُرفتْ عن الشيخ عبدالرزاق حياةٌ قط غير حياته بين طلابه في الصف، أو بين تلاميذه في بيته يقرؤون عليه ويسألونه، أو في مسجده يتعلمون منه، أو في صميم عمله الوظيفي لدى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يذاكره العلم، ويستفتيه في حال الطلبة الذين يرشحون للقضاء والمناصب القيادية، وكان رحمه الله عمدة في ترشيح الخريجين وتزكيتهم.. ولما أحيل على التقاعد مرَّت سنون لم يراجع لتسلم استحقاقه؛ لأنه متورع عازف عن التقاعد من دون أنْ يكتب فتوىفي ذلك، وإنما حمل نفسه على الأشد؛ لأنَّ كثيراً من السلف يتورعون عن بعض المباح، وباب الزهد واسع عند الأسلاف.. وأبى الملك فيصل رحمه الله إحالة الشيخ عبدالرزاق على التقاعد، وأوصى بأن يظل منبعاً ثراً مدى حياته، وكان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز أكثر تعلقاً به؛ لما جربه من غزير علمه، ورجاحة عقله، وعفته وتورعه، فلم يأذن له بالاستراحة وقد أناف على التسعين ما دامت قوته العقلية لم تضعف؛ فكان يذهب إلى مكتبه يُدفُّ على العجل.. ومع أنه اكتفي برويتبه، وبقي في فُليلة بحارة شعبية لا تليق بأصغر تلامذته: فإنه لم يدَّخر من هذا الرويتب شيئاً، فقد كان يوزعه على أسر فقيرة في مصر، وكانت له صدقات في رمضان سخية على بعض المستحقين بالمملكة.. وعندما كنتُ بالمعهد العالي للقضاء كانت هناك مكافآت للطلاب المغتربين تتأخر عنهم، فكان يقرضهم، وكان يتنازل عن حقه لدى هذا، ويأخذ بعض حقه من ذاك.. وكان هو والعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فرسي رهان، ويظل لكل واحد منهما ميزته، وقد جرَّبتُ دروسه في التفسير، والأصول، والعقيدة، وسبرت شيئاً من علمه بالعقليات في نقاشٍ شفهي، إلا أنني عندما جئت إلى المعهد العالي للقضاء وكان مديراً له، وكان مدرساً فيه، وكنت من قدماء من التحق بالمعهد وبالعكس: كنت من أواخر المتخرجين فيه.. وقد زاملتُ في هذا المعهد من هو في دور مشايخي.. وما دام التغابن في العلم من باب التنافس المحمود فما غبنني إلا جبهات وكتل من العقل البشري جاءت إلى المعهد بعدي، وتخرجت قبلي بسنين، ومنهم من كان أول ممتازٍ منذ بدأ إلى أنْ انتهى مثل أصحاب المعالي الدكاترة: عبدالله التركي، وحمود الفايز، وعبدالعزيز الربيعة.. جئت إلى المعهد وكان الشيخ عبدالرزاق يكن لي ذكريات حب وإعجاب كما يفرح الأب بابنه النجيب، إلا أنه وجدني على غير عهده؛ إذْ وجد شيئاً من الأناقة في الملبس والمظهر مع توسع الأدباء والظرفاء، فلم يغسل يده مني؛ لأنه يحس عندي عناصر من التأصيل الشرعي، ولم يفرح بي كما يفرح بنجباء تلامذته الذين لا يزالون على سمتهم.
قال أبو عبدالرحمن: وقد فضحتني الصحافة، أو فضحتُ نفسي بها بشيء من الترطيب الفني، حتى أنني لم أبال بمشايخي في مقدمتي لكُتيِّبي (نظراتٌ لاهية)، وكان إذا رآني، وأحس أنَّ الساحة خلية من سامع: رمى كليمة من مثل قوله: «يا أبا عبدالرحمن لا تسقط من الزنبيل»!!، كأنه يريد أنْ يقول: إنَّنا نريد رفعتك وحيازتك، وأنت تأبى إلَّا أنْ تتدلى.. وعندما كنتُ طالباً في المعهد كنتُ أحمل شيئاً من الصلَف الأدبي والصحفي أمام جهابذة العلم، وأحضر فصول الدراسة للاعتداد بنفسي أكثر من الاستفادة من مشايخي، وقد نَغَّصتُ على مشايخ لي من أمثال البحيري، والدسوقي.. إلا أنَّ الشيخ عبدالرزاق لا يترك مجالاً لفضوليٍّ مثلي؛ لأنه يأسرني فكراً ووجداناً ولغةً؛ فأُصغي إلى الدرس أستفيد على الرغم مني.. ومن سخافاتي أنني أحَضِّر للآية التي سيفسرها من أكثر من تفسير؛ لأستدرك عليه شيئاً فاته، فإذا شَرَعَ بدرسه تبخَّر كل شيء في جعبتي؛ لأنه يتناول الموضوع تناولَ خاصة من العلماء جمعوا بين الحفظ والفكر؛ فكانت مادته دسمة، وكان قديراً على التوصيل؛ لأنه كان جذاباً ومغرياً، وما سمعت منه قط كلمة مؤذية، ولكنه كان يفرض هيبته واحترام الطلاب له تلقائياً بشكل عجيب.. وانتهيتُ من المعهد بدرجة مقبول، وكانت هذه الدرجة إنقاذاً منه لي، وقد صرَّح أمام لجنة المناقشة أنَّ انتشالي تقديراً لي وليس لبحثي.
قال أبو عبدالرحمن: لم أَنل من الشيخ عبدالرزاق رحمه الله شهادة علمية؛ وإنما فزت منه بمنهج تربوي تعليمي كريم، فعندما تأزمت بيني وبين شيخي البحيري رحمه الله تعالى، وتولَّى الشيخ عبدالرزاق الإشراف عليَّ فترة قليلة ريثما أعادني إلى مشرفي الأول تخلقت منه بخلق علمي، فكنت ألخص أقوال بعض العلماء بفهمي وأسلوبي، فيطالبني بالتنصيص، ثم يستعيد النص مني مراراً حتى يبين لي أنَّ ما فهمته ولخصته كان فهماً خاطئاً، وأحياناً أنقل نقلاً عن عالم ثم أحيل على أقوال آخرين ظننت أن مذهبهم كان واحداً؛ فيطالبني بالتنصيص ثم يُظهر لي فروقاً دقيقة يتضح منها أنَّ المذهب ليس واحداً، وإنني لأعجب من استحضاره ذلك، وقد فاجأته بالبحث مفاجأة؛ فنهجت في حياتي العلمية بعد ذلك أنْ أقرأ النص جيداً، وأنْ أنقله تنصيصاً، فإنْ اضطررت إلى تلخيصه وعرضه بغير لغة مؤلفه أدمنت قراءته حتى أتأكد من فهمي له فهماً يطابق مراد كاتبه.. وكان رحمه الله منصفاً في جدله العلمي، يفرق بين صحة الدعوى في ذاتها أو فسادها وبين صحة أو فساد البرهان المستدل به على الدعوى، ويرى أنَّ فساد حجة ما لا يعني فساد المدَّعَى؛ ولهذا تراه يناقشك في أدلتك أو اعتراضاتك، ثم يهلهلها مع أنه يوافقك في المدعى.. ومن منهجيته رحمه الله أنني أحرر له البحوث عن مسائل من المذهب الظاهري ككراء الأرض، واشتراط إعادة ما قال في الظهار، وضرورة صُمات البكر إذا استشيرت في الزواج، وترك قضاء الصلاة المتروكة عمداً بغير عذر إذا خرج وقتها.. (قال أبو عبدالرحمن: كانت رسالة الماجستير (الظاهرية ما لها وما عليها)، ثم بعد عام أُلغيت بـ(ظاهرية ابن حزم ما لها وما عليها)، ثم بعد عام أو أكثر ألغيت بـ(أحكام سورة الطلاق)، و(التفاصيل في التباريح)؛ فكان يناقشني في أدلتي حتى أرجعها إلى أصول ظاهرية، ويقول لي: ليس المهم تحرير المسألة فقهياً بأية أدلة كانت؛ بل لا بد أنْ تبين رجوع دليلك وفق أصولهم، فإنْ احتججت للمسائل بأدلة على غير أصولهم فتبين، مثلما يفعل الإمام ابن حزم نفسه، أن تلك الأدلة إلزامٌ للمخالفين.. ويقول لي الشيخ رحمه الله: (إذا أحكمت أدلتك على أصول أهل الظاهر ينتهي الجدل فقهاً، ويبقى الخلاف أصولياً).. وعندما قال لي سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله بقاعة المدرسين بالمعهد العالي للقضاء: «ما نعلم ظاهرياً غيرك وغير أبي تراب، ووصفنا بالشذوذ»، قلتُ: لسنا شذاذاً؛ بل نحن نُزَّاع: ظهر السرر على وجه الشيخ، وانبسطت ابتسامته إعجاباً بمعارضة الدعوى بسرعة، وإنْ كان لا يؤيد دعواي.. ومرَّة كان كثير التحذير من شذوذ ابن حزم، فقلت: غير ابن حزم أكثر مفردات، ولكن ابن حزم كما قال أبو طالب عقيل بن عطية: ليست عنده حالة وسط، إما سُموق إلى النهاية، وإما نزول إلى النهاية.. وأردفتُ بأنَّ تفرده قليل، ولكن ذلك القليل شنيع مضحك مستغرب.. ثم أردفت بقولي: إنَّ شناعة خطأ ابن حزم مكشوفة مثل (سِتر العنز)؛ فأعجب بها الشيخ وصار يرددها على الطلاب في الفصول.
قال أبو عبدالرحمن: وتكوين الشيخ عبدالرزاق رحمه الله العلمي يعلِّم طلابه الحرية الفكرية، ولهذا فهو يرى النقاش في الدرس والأطروحات وسيلة للاستقلال الفكري: بأنْ يكون الطالب قادراً على الاحتجاج والاعتراض.. أما صحة المذهب في ذاته فأمر مردود إلى اجتهاد طالب العلم خارج أسوار المعهد وفق ما لديه من حصيلة علمية، وفطرية فكرية، ونزاهة خلقية.. والشيخ له باعٌ في المنطق والعقليات وعلم الكلام، وعلى علم ودربة بمواقع الضعف في كتب العقيدة التي تُدرَّس خارج المملكة على أسلوب المتكلمين كالسنوسية؛ بل كان الشيخ ذا عناية بالنسفية قبل أنْ يصل إلى السعودية، إلا أنَّ سماحته لا يتظاهر بعلمه، ولكنه إذا سئل أو ناقش أو طُلب منه الدليل والتأصيل: كانت فتواه عن علم مؤصل لا يملكه إلا خاصة من الأسلاف جمعوا بين المعقول والمنقول حديثاً وتفسيراً وأصولاً ولغة ومنطقاً.. وتعليقاته القليلة على بعض الكتب مثل الكتاب الفحل (أحكام الآمدي في الأصول) كانت قليلة، وكانت لمحة عالم.. والشيخ في جبلته يؤمن بتخريج الطلاب، وتسهيل العلم الذي ورثناه عن الأسلاف دون حاجة إلى مزيد من التأليف؛ ولهذا نفع الله بدروسه وتلاميذه، فكانت له في وسطنا العلمي بالسعودية بصمة متميزة تجمع بين المعقول والمنقول.. رحم الله شيخنا أستاذ الجيل وجمعنا به في دار كرامته.
قال أبو عبدالرحمن: ومسك الختام ما قلته بهذه الأبيات في شيخي وأستاذي عبدالرزاق عفيفي رحمه الله تعالى:
وشيخُ شيوخِ الجيل من بان فضلُه
بعلمٍ غزيرٍ فائقٍ لا يُقلِّدُ
فذاك العفيفيُّ الذي فاءَ ظِلُّهُ
عفيفٌ كما دلَّ اسمه مُتَزَهِّدُ
فعشنا على السمحاء نَهدي ونهتدي
وجُلُّ عوامِّ العصر من هديهمْ هُدُوا
وجوهٌ بأنوار الفضيلة أشرقَتْ
فتشربها الأنظار ترنو وتَسْعَدُ
براءةُ أطهارٍ وسيما مُوَحِّدٍ
لها هَيْبَةُ التقوى تُصَلِّي وتَحْفِدُ
قال أبو عبدالرحمن: تحفِدُ تُسرع في مرضاة الرب سبحانه وتعالى، وهذه المقالة الموجزة طليعة لكتاب وسفر عن شيخي رحمه الله يصدر قريباً بإذن الله، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمِّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين