د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت آنفاً عن مهارات المعلم وأشير اليوم إلى مهارة مهمة جداً من مهارات التدريس وهي «التشخيص» حيث يتمكن المعلم من قراءة نتائج التقييم الذي يقوم به من فترة لأخرى بجميع صوره وقوالبه ليخرج من هذه القراءة بتشخيص أي المهارات وجد فيها ضعفاً مشتركاً بين طائفة من الطلاب، وكذلك ربما اكتشف أي الأسئلة كانت محل خلق إشكالات، وربما أيضاً عثر على نقاط ضعف في المنهج ليقوم بعد ذلك بمعالجات مناسبة لتلافي هذه النقاط، والمعلم الذي يشخص واقع التدريس يتمكن باستمرار من النهوض بطلابه وتجاوزهم الصعوبات التي تعترض بعضهم أو تلك التي يشتركون في الشكوى منها، وهو في هذا الشأن يمكنه أن يتعرف أيضاً على أسباب وجود هذا الضعف لدى بعض الطلاب دون بعض نتيجة لفقدانهم معرفة أو مهارات سابقة متطلبة لفهم المعرفة أو المهارات الحالية، وربما كان ذلك مثلاً لظروف في السنة السابقة أو لدى معلم سابق، وهنا يأتي دور المعلم ليسد هذه الفجوة حتى يتمكن هؤلاء من استيعاب المعرفة الجديدة ويصبحوا مثل أقرانهم في الفصل الذين اكتسبوها من أول مرة.
وسد الفجوة هذا هو ما يسميه فيغوتسكي Vygotsky في نظريته للتعلم الإدراكي «التسقيف» (أو التدعيم إن شئت) وهي محاولتي لترجمة التعبير التالي الوارد في نموذجه: Scaffolding وهي مفردة تستخدم في هندسة البناء والتشييد تشير إلى عملية وضع سقالات لتدعيم السقف حتى يتم صب الخرسانة فتتماسك، فهي عملية تسقيف أو تدعيم كما حاولت أن أترجمها، وهو دور مهم للمعلم إن أردنا أن تقدم المدرسة للطالب الخدمة التعليمية الصحيحة فهي تبني وتنشئ، كما قال شوقي في رائعته الإطرائية للمعلم «قم للمعلم» حيث قال: أعلمت أشرف أو أعز من الذي، يبني وينشئ أنفساً وعقولاً، فتطابقت نظريته الشاعرية التخيلية مع نظرية فيلسوف التربية الروسي فيغوتسكي، كما أن أحدهما سمع من الآخر، ملمح آخر بين الاثنين أن منهج فيغوتسكي يقوم على تعميق فهم المعلم لدوره الاجتماعي في الفصل كمسهل للتعلم facilitator أكثر منه ناقلا للمعرفة كما تذهب إليه النماذج الأسبق منه، والمعلم بهذه الصفة يحتاج إلى أن يصبر على لأواء النقاش الطلابي الذي يميز هذا النوع من التعلم التشاركي ويتمكن المعلم من طرح الكثير من الأسئلة وتقبل الكثير منها أيضاً، وكل ذلك يستلزم وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً كان يمكن المعلم أن يتجنبه بإلقاء الدرس وتقديم المعرفة جاهزة للطالب مع تشويق مناسب لشد الانتباه، بيد أن النموذج الاجتماعي لفيغوتسكي يضع الطالب في مركز الدائرة والاهتمام ليكون هو مصدر المعرفة ما أمكن ولا يتعدى دور المعلم تسهيل وصوله إلى هذه المعرفة بتنظيمها له تارة وتقريبها له تارة أخرى، فهو بهذا الاعتبار يقوم بسد الفجوة المعرفية بينه وبين الطالب، وهذا هو الشكل الأساس لعملية التسقيف التي أشرت إليها آنفاً، وكل هذه المكابدة لا يقوم بها إلا المعلم الذي يعشق مهنته ويقبل فيها التضحيات، كما قال شوقي في أوائل مدحيته الرائعة: ذهب الذين حموا حقيقة علمهم، واستعذبوا فيها العذاب وبيلا.. ثم قال في أواخر القصيدة: إني لأعذركم وأحسب عبئكم، من بين أعباء الرجال ثقيلاً.
يا شوقي يقول لك فيغوتسكي: صح لسانك.