د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يتداولُ أهلُنا حكايةً ذائعةً تشبهُ الدرسَ سمعها صاحبكم من والده -رحمه الله- وملخصُها أن رجلًا عُرف بحسن التعامل لدرجة الإسراف في الثناء، وكان يبادرُ من يقابله في السوق بقوله: «هلا بخَلَفْ أبوي»، فامتدحوا لطفَه حتى سمعه أحدُهم يخاطب حمارَه بالعبارة نفسِها؛ فعرفوا أنها كلمةُ مقالٍ لا مقام.
** ومن والده -غفر الله له- وعى حكايةً أخرى، وكلتاهما وهو دون العاشرة من عمره - ومؤداها أن سفيهًا ابتلى وجيهًا ببذاءاتٍ علنيةٍ وحركاتٍ سيئة وهو يتبعه كظلِّه فأعطاه المتبوعُ ريالًا، وإذ سئل عن ذلك؛ فكيف يؤذيك وتكافئه؟ أجاب بعبارةٍ عاميةٍ صارت مثلًا معناها: سيقعُ بغيري ويؤدبُه، أي أن المال سيغريه ليواصلَ سلوكَه مع سواه، ولن يكون كلُّهم بمستوى حِلمه، وصدق؛ فقد رُئيَ وهو يُعاقبُ من آخرَ لم يحتملْ نَزَقه.
** ثنائيةُ المدحِ والذمّ المبالِغين تُفقدُهما تأثيرَهما، وكلتاهما تُشيرُ إلى تطرفٍ شعوريٍ لدى مرتكبِهما، والحبُّ هونًا والبغضُ هونًا -كما ورد في الأثر- دواءٌ لهذا الداء إن لم تحمِ الملوثين به قيمٌ أخلاقيةٌ تصدُّهم عن تجارة الكلمات والمواقف.
** وفي المسار الثقافي الإعلاميّ تَذيعُ قصصٌ مشابهةٌ، ومنها ما رُوي عن رئيس تحريرٍ عربيٍ أشبهَ بالمُقاول أُعطيَ مبلغًا كبيرًا من مسؤولٍ بدولة عربيةٍ فلم يمدحْه، وحين عاتبه على صمته قال: إن ما أخذه منه خاصٌ بوقفِ انتقاده، وللثناء مبلغٌ آخر.
** وقيل إنَّ كاتبًا أُوقف عن سلسلةٍ ابتدأَها في مديح مسؤولٍ ذي شأن بطلبٍ من المسؤول نفسِه عندما أيقنَ أنها سلسلةٌ غيرُ مبرأةٍ من الهوى، وكذا قُطعت سلسلةٌ أخرى خُصصتْ لذمٍّ ذي غرضٍ في نفسِ كاتبِه، والأمثلةُ تطول.
** الصورُ القاتمةُ تلاقيها في الضفة الثانية صورٌ مشرقة؛ فقد جار الشاعرُ العربيُّ الراحل سليمان العيسى على رموزٍ وطنيةٍ في ذروة الانفعالات الشعاراتية المُجيَّشة ضدَّ بعضٍ ومع بعض وكتب قصيدته: «أين الذُّرى الشُمّ»، لكنه عاد وحذفها من مجموع أشعاره، واعتذر عنها عندما رأى صفوف الباحثين عن عملٍ يسُدّون طرقاتِ دمشق المؤديةَ إلى سفارة المملكة، ولم يرضَ ضميرُه الأخلاقي بهجاء ذوي الفضل على وطنه ومواطنيه، وكذا يجيءُ الشعرُ أنموذجًا مُعاشًا قادرًا في كلِّ الأزمنة على تشويه التأريخ رغَبًا ورهَبًا؛ والمكتفون بقراءةِ ظلاله لا يغفلون عن إضلاله، لتبقى الصورُ الفنيةُ وحدها موقعَ الإيجابِ والإعجاب، ولا قيمة لما وراءها من معانٍ توثِّقُ أو تُلفّق.
** لم يكن المتنبي منصفًا حين هجا كافورًا وابنَ كَيغَلغ، مثلما لم يكن بريئًا بمديحه سيفَ الدولة، والتأريخُ ينصفُ لكن صوتَه أضعف، ومثلُه لم يعدلْ نزارٌ والبردُّوني - وهما شاعران كبيران - في هجائياتهما التي شوهتْ وجوهًا عربيةً مضيئة، وشبيهٌ بالشعرِ النثرُ والهذر، والبثُّ والكثُّ، والوسائطُ والمصائد التي ترمي وُرودَها لمن يدفعُ وينفع.
** واهمٌ من يظنُّ الكلمات تتبعثرُ في الهواء، والأكثرُ وهمًا من لا يوظفُ عقلَه في تأطيرِ وعيٍ ذاتيٍ عصيٍ على الإملاءات.
** أميتوا المتنبي في محاكماتكم.