عبدالوهاب الفايز
ربما هناك من يتصور أن صناعة التغيير وإحداث التحولات الإيجابية في حياة الناس تتطلب جهدًا عظيمًا خارقًا، بينما يمكن تحقيقها بأيسر الطرق وبأقل التكاليف.
وما قلناه الأسبوع الماضي حول الفرصة الذهبية التي يتيحها استثمار مقر وزارة الموارد البشرية بموقعه ومساحته والمباني الموجدة فيه يدعم هذا التصور عن إمكانية صناعة التغيير الإيجابي لحياة الناس، بالذات الاستجابة السريعة لاحتياجات كبار السن. فالمقر الحالي يعطينا الفرصة الذهبية لتطوير تجربة (مركز الملك سلمان الاجتماعي) وتحويله إلى مدينة إنسانية تتملكه وتتولى تشغيله شركة مساهمة عامة خيرية وقفية، وهذه سوف يتسابق المواطنون لتغطيتها. ليس لدينا شك في ذلك. شركة هامبورغر غطيت مئات المرات!
والآن نقول إن المواطنين السعوديين إذا تمت دعوتهم للمساهمة في تمويل (شركة إعلامية خيرية) سوف يتسابقون لدعم هذا المشروع كما نراهم يتسابقون للدفاع عن بلادهم الآن في تصديهم لمشروع الإعلامي الإيراني الذي يحارب المملكة على كل الجبهات عبر رموزه المزروعة في الإعلام الخليجي مثل (جورج قرداحي!)، فهؤلاء تكشفهم الظروف والمواقف.
فالاستجابة السريعة من المواطنين السعوديين للدفاع عن بلادهم ربما هي مؤشر لإدراكهم (ضعف المنظومة الإعلامية وعدم قدرتها على التحرك السريع للتصدي لمهددات الأمن الوطني). وعموما هذا ليس بمستغرب أو بأمرٍ جديدٍ علينا، فالأزمات تكشف معادن الشعوب، وبلادنا تتجدد فيها مشاهد المواطنة الصادقة في كل الظروف والمواقف المرة والحلوة، فالسعودي عندما يدافع عن بلاده، هو يدافع عن وجوده ومستقبله. ألم يقل الراحل الكبير الأمير نايف بن عبدالعزيز، رحمه الله، للشعب السعودي: (لقد رفعتم رؤوسنا أمام العالم).
هذه الروح الجامعة المانعة نتمنى استثمارها لتأسيس كيان إعلامي وطني يموله ويديره ويشرف عليه ملاكه من المواطنون. والتمويل يأتي من مصادر مثل: اعتماد نسبة سنوية من مخصصات برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات المدرجة في سوق الأسهم، وتمويل الأوقاف مما هو مدرج تحت شرط الإنفاق على الإعلام النافع، والتمويل الذي يأتي من الاشتراكات ومن التبرعات والهبات، ومن الأنشطة الاستثمارية.
نموذج الشركات الإعلامية الممولة من المواطنين يتم العمل به منذ سنوات بعيدة في عدد من الدول الكبرى الرأسمالية، والحكومات تدعم تأسيس هذه الكيانات وتشجع القطاع الخاص والجمهور على دعمها عبر الحوافز الضريبية، لذا تجدها متطورة في المحتوى والمهنية وتعرف كيف تخدم المصالح الحيوية للدولة، وهي خير وسيلة للدبلوماسية الناعمة، وتتناغم في خطابها الإعلامي مع المصالح العليا لدولها وخطها السياسي.
هذا النمط الجديد للإعلام لم نجربه سابقًا لأن القطاع العام كان له مؤسساته التي تتلقى تمويلها من الحكومة. وأيضا القطاع الخاص ظل يتولى الاستثمار في الإعلام بموارده الخاصة، بالذات المؤسسات الصحفية التي تعد العنصر الأهم في المشهد الوطني الإعلامي، وكانت غالباً تتحرى تحقيق الأثر الوطني بأبعاده الأمنية والاجتماعية قبل تحقيق المكاسب المادية، وحتى الآن ما زالت تتحرك في الإطار الوطني رغم ظروفها المالية الصعبة.
نحتاج هذا النموذج لاعتبارات موضوعية، فالقطاع الخاص إذا دخل في الاستثمار الإعلامي فلن يتمكن من تقديم المحتوى الإعلامي الراقي الملبي للاحتياجات الإنسانية والوطنية المتعددة ويحقق الأرباح المجزية التي يتطلع إليها لأنه سوف يواجه منافسة شرسة من نجوم ومشاهير التواصل الاجتماعي الذين يعتاشون على المحتوى الشعبوي الهابط. هؤلاء أخذوا الحصة الكبرى من الانفاق الإعلاني والتسويقي للشركات.. وللحكومات!
أيضا الإعلام الحكومي لن يخدمنا لأنه يظل صوتاً رسمياً بطيئ الحركة، فاقد الإبداع، ولم يتمكن حتى من تقديم المنجزات التي تحققها برامج الرؤية، ولن يكون قادراً على ملاحقة احتياجات الناس. أما بقية منظومة الإعلام المحسوب علينا فهذه بعيدة عن الهم الوطني ولم تكسب الجمهور المحلي، ومحتوى رسالتها الإعلامية له منطلقاته الخاصة، ومشاريعها الإعلامية أصبحت مصدر تكسب وإثراء عبر المميزات وتضخيم النفقات لتمرير المشاريع والمصالح الخاصة، وهذه ظلت رسالتها ومنتجاتها الإعلامية خارج سياق اعتبارات الدين والدولة. لذا تبقى غير مقبولة من الأغلبية لأنها تتصادم مع وجدانها واعتباراتها الوطنية الخاصة. فقط الصحافة السعودية، بمحرريها وكتابها، ما زالت تقوم بدورها الإيجابي لتقديم مشاريع التنمية وحشد المواطنين للدفاع عن بلادهم.
الدور التنموي للإعلام وقيادة الرأي العام وتوجيهه للدفاع عن مصالح بلاده وعن وجوده هو الذي نتطلع إليه ويجب أن نتمسك به ونسعى إليه. وجود شركة إعلامية تتأسس على نموذج (الاستثمار الاجتماعي)، أي تسعى لتحقيق الأهداف الوطنية والخيرية أولا، وتسعى للربح الذي يضمن لها الاستدامة والتوسع في المشاريع. مثل هذا النموذج هو المنقذ لمنظومة الإعلام الوطني، وهو الذي سوف يحفظ مواردنا المالية من العبث ويحقق النزاهة والشفافية والحوكمة للنفقات المالية.
أجزم أن أغلب الإعلاميين السعوديين المحترفين والمؤثرين وأصحاب الخبرة الطويلة في بناء المحتوى وتداول الرأي سوف يرحبون بمثل هذا النموذج الجديد للمنشآت الإعلامية. أغلب هؤلاء يشاركون في الإعلام منذ ثلاثة سنوات بدون مقابل بالذات في القنوات التلفزيونية، فهذه رغم وجود النفقات المالية المعتمدة لا تدفع الرسوم المقررة للمشاركين في البرامج الحوارية. والأغلبية لا تسأل عن هذه الحقوق ويسكتون عنها لأنهم يرون الواجب الوطني هو الأهم.
هذه الشركة ستكون قاطرة الاستثمارات الإعلامية، وسوف تخدم المستثمرين السعوديين الصغار الذين يصارعون للحصول على حصتهم! أيضا سوف تنمي التعليم والتدريب والإبداع الإعلامي، وتوجد الحاضنة لبناء شركات صغرى تخدم الإعلام في المدن الصغرى والأرياف ومدن أطراف الدولة المنسية!
لن تنتهي المكاسب الوطنية.. نترك لكم بناء القائمة.