قبل ما يزيد عن نصف قرن ونيف كنت شاباً يافعاً أعيش عيشة بسيطة وحالمة بين والدي وبعض إخوتي في أحضان قرية حالمة وديعة وجميلة، وكان عدد بيوتها الطينية لا يتجاوز المائة بيت تزيد أو تنقص تدعى حرمه بجوار المجمعة، تلقيت التعليم في مدرستها الابتدائية حتى أنهيت الصف الثالث الابتدائي، وبعد ذلك انتقلت بقية الأسرة إلى مدينة الرياض، أعود إلى مسقط رأسي أولاً: لا أقول كنا نرى حرمه عالمنا الذي لا يماثله شيء، طبعاً كنا نذهب إلى المجمعة في أحايين نادرة نزور عمتنا -رحمها الله ووالدينا ووالديهم وجميع المسلمين- ولكن لم نكن نرى فارقاً كبيراً بينها وبين حرمه، فنفس البيوت الطينية القديمة وبساتين النخيل الوارفة عدا هذا لا شيء يختلف آنذاك.
كانت الحياة حلوة ووادعة والناس يعرف بعضهم بعضاً تربطهم أواصر القربى وتظللهم المحبة والألفة، وكان هناك مكان يعاد الآن إحيائه لسيرته الأولى يدعى «حميان» تحيط به بساتين النخيل ويتوسطه أحد الأودية الذي عادة ما يجري في بعض أيام الشتاء إذا نزل مطر غزير يتخذه كبار السن والشباب والأطفال مجلساً ومرتعاً لهم يقضون فيه أجمل أوقات العصر والمساء يركضون ويتسامرون ويلعبون مختلف أنواع الألعاب الشعبية مثل عظيم ساري والتسابق والكعابه والصقله وغيرها من ألعاب ذلك الزمان منتظرين غروب شمس الأصيل بين النخيل، فترى الماعز آتية بكل الشوق إلى مدى الماء لترتوي من عطشها ثم يتلقاها ملاكها أو أبنائهم وتسبقهم على مساكنهم كل ماعز أو نعجة أو أكثر تعرف بيت ملاكها ويذهب الراعي إلى مسكنه ليرتاح من يوم شاق قضاه في تجميع هذه البهائم من بيوت أصحابها ليذهب بها بعيداً عن القرية بحثاً عن الكلأ ليعود بها في مساء كل يوم وقد أضناه التعب وهكذا كل يوم تطلع فيه شمس وتغيب.
وإن أنسى لا أنسى أنهم يضعون في أحيان نادرة قطعة كبيرة من لحم بعير فيحاول كل واحد منهم إصابتها بسهم فيكون الفائز وتكون من نصيبه، وكنا نادراً ما نرى السيارات وإذا ما لاحت لنا سيارة في يوم من الأيام فهي إما سيارة البريد المصندقة أو ونيت فرت أو شاحنة تنقل مسافرين أو أغنام ومسافرين، وقد تأتي بشيء قليل من البضائع، فالمادة قليلة في أيدي الناس والبشر قليلون والمواد المستهلكة عادة ما تكون من المنتج المحلي باستثناء القهوة والهيل والشاي والسكر والأرز لكننا لم نكن نعرف السيارات الصغيرة، فالطرق لم تعبد بعد وحتى لا نتخيلها، وكذلك لم نكن نعرف القلابات أو الوايتات فليس لها من حاجة حيث لا يوجد بناء بالمسلح واستهلاك المياه قليل جداً.
كنا لا نغبط أحداً في معيشته وكانت حرمه هي عالمنا الوحيد والجميل، وكنا إذا جنى الليل وأرخى سدوله نصعد إلى فرشنا فوق السطوح في الصيف ووقت موسم خراف الرطب وقطف الحبحب والشمام والعنب فنجد فرشنا باردة من نسمات الهواء العليل الذي مر من خلال بساتين النخيل التي تحيط بالقرى إحاطة السوار بالمعصم فغدا عليلاً ينعش الأرواح ونأكل من الرطب اللذيذ ذي الأنواع والأسماء والأشكال والألوان الزاهية ما بين صفراء وحمراء والمستدير والطويل، وعادة ما يمر من يخرف ثمر النخل على بعض البيوت ليعطوه المخرف وهو زنبيل متوسط الحجم وذلك بعد صلاة فجر كل يوم ليملأه كل يوم بنوع معين من أنواع الرطب اللذيذ ويغطيه بالبرسيم أو الذرة وكان الناس يسرفون في استهلاك الرطب، خاصة أن موسمه قصير وطعمه لذيذ وشهي ومتعدد الأنواع والأصناف والأشكال الدخيني والسلج والحلا والقطار والشقر والمقفزي والروثان والمكتومي والخضري والراوي وتطيب النفس بتناول الحبحب والشمام والعنب الأحمر ونشرب من ماء القربة البارد، وبعد صلاة العشاء يخلد الجميع إلى النوم لأنهم يستيقظون مع آذان الفجر التالي، بل إن كثيرين منهم يستيقظون مع الآذان الأول وهو قبل التالي بساعة أو ساعة وربع حيث كان هذا ديدنهم في السابق ويصلون ما شاء الله لهم ويناجون ربهم ويشعلون نيرانهم ويصنعون قهوتهم ويشربون بعضاً منها مع حبات من الرطب أو التمر ليستعدوا للذهاب لصلاة الفجر وبعد الصلاة يعودون إلى مساكنهم وأحياناً مع واحد أو أكثر لمشاركتهم القهوة وما تيسر من التمر وربما الحليب لأن الشاهي كان قليلاً ويدخر للضيوف ويسمى حلو لإضافة كثير من السكر إليه الناس في ذلك الزمان، كانوا لا يأكلون إلا وجبتين يومياً وجبة الإفطار إن كان هناك من إفطار ووجبة أخرى هي وجبة الغداء والعشاء أو كما يعبرون عنه اليوم بواحد في اثنين، وكانت تقدم بعد صلاة العصر وتتكون إما من القرصان مع الخضار أو الحليج أو بنت عمه المقابيط مع القفر أو الجراد أو الخضار فقط أو الجريش أو العصيد فهذا قليل، ولا يحلمون باللحم إلا في عيد الأضحى أو في مناسبة زواج أو قدوم ضيف غال. أما الدجاج فكانوا يستعيبون أكله وكان هو والبيض يعطى للإخوة المدرسين المصريين. أما الرز فلم يأتِ إلاّ متأخراً وكان غالباً ما يقدم للضيوف وفي المناسبات مثله مثل الشاهي أو الحلو. وكان من يذهب للرياض أو الظهران لطلب الرزق يعتبر متغرباً نظراً لقلة المواصلات وعدموفر طرق معبدة وقلة السيارات. أما وسائل الاتصال فهي الرسائل ثم عن طريق المبرقات وكان هذا تطوراً لافتاً.
أما الذهاب إلى مكة المكرمة فكان حلم الكثيرين وكان من يذهب إلى الكويت أو البحرين أو الزبير يُنظر له من قبل الأجداد بنظرة غير ودية عندما يعود وبعضهم لا يسلم عليه إلا بعد ثلاثة أيام على ما كنا نسمع.
وكما أسلفت ارتحلنا إلى مدينة الرياض وكان ذلك على ظهر شاحنة كبيرة لإنسان طيب -رحمه الله- صديق للإخوة الذين أيضاً رحلوا إلى الدار الباقية -رحمهم الله وعفا عنهم- وتحركت بنا الشاحنة الكبيرة وأعتقد أن من كان يقودها هو صاحبها.
وكما ذكرت فالطريق غير معبد، مما يجعل الشاحنة تتمايل يمنة ويسرة وتقفز في وجود البطاونج وكانت أختي تضحك وتقول ببراءة الطفولة «تردحنا» بمعنى ترقصنا فلم تكن كلمة الرقص متداولة في ذلك الوقت «شفاها الله وعافاها». وكنا في غاية الانبساط لركوب هذه الشاحنة، وكان سفرنا على ما أعتقد عصراً حتى اقتربنا من الرياض قبل صلاة الفجر فقرروا أخذ قسط من الراحة حتى انبلاج الصباح لنواصل المسير وندخل الرياض وكان دخول المدن ليلاً غير مستحب حسب الهدى النبوي وبواباتها لا تفتح إلا بعد صلاة الفجر وسكنّا مع الأخ الأكبر -رحمه الله- في بيت كبير من دورين في حي المرقب قرب الفوال الشهير آنذاك بادحدح، وكذلك قرب مدرسة الخالدية الابتدائية التي سوف نكمل بها السنة الرابعة الابتدائية حيث سوف ننتقل بعدها إلى بيت آخر مستأجر في حلة القصمان ونكمل دراسة الابتدائية في مدرسة الحلل، ثم ننتقل إلى حوطة خالد ونبدأ الدراسة المتوسطة في المدرسة المتوسطة الثانية في بيت ابن جبر قرب شارع الظهيرة لنواصل دراسة الثانوية في مدرسة اليمامة ثم يتم ابتعاثنا للدراسة في الخارج ولهذا قصة أخرى.
بهرتنا الرياض على كبر مساحتها وكثرة أحيائها وإن كانت صغيرة بمقاييس اليوم وأول مرة نرى بعضاً من العمائر والمساكن من الإسمنت المسلح، ونرى بعض الشوارع المرصوفة، ونرى أنواعاً كثيرة من السيارات التي لم نرها من قبل مثل النسافات وصهاريج المياه والأتوبيسات والتكسيات، ونرى دكاكين داخل الحارات يبيع فيها إخوتنا أبناء حضرموت الأوفياء والأمناء المربى والقشطة والزيتون والبرميت والفصفص، وكذلك الببسي والميرندا.
أما شارع الملك فيصل -رحمه الله- أو الوزير فحدث ولا حرج فهو يمثل رئة الرياض أو إن شئت شارع شاعر لزيله الرياض آنذاك وشارع الثميري فهما لتجار الأقمشة والملابس التي يرتديها من يريد السفر إلى لبنان وسوريا ومصر، وكذلك الساعات والجزم فهذه للطبقة فوق المتوسطة.
ووجدنا في الرياض المطاعم والمخابز والفوالين وما ذكرته سابقاً من مأكولات ومشروبات لم نكن نعرفها ورأينا الكهرباء والأنوار والمراوح والتلفونات أبو هندل في بعض البيوت والمتاجر، ورأينا أسواق اللحوم والخضار وفاترينات شارع الملك فيصل والثميري والشاورما والعصائر والأيسكريم فكانت هذه الأشياء على بساطتها مبهرة لنا، وكذلك صنابير المياه ودشوش الماء للاستحمام والصابون والشامبو والمناشف والأسرة الحديد، كل هذا الترف لم نعرفه أو نعهده في مدننا الصغيرة إلا بعد سنوات وسنوات ونحمد الله أن مدَّ بأعمارنا لنرى المملكة اليوم تناطح الدول المتقدمة في كل مناهج ومناحي الحياة والترف ورقي التعليم للجنسين فلله الحمد والمنَّة ونسأله دوام نعمة الأمن والأمان والاستقرار وراحة ورغد العيش وهنائه.