عبدالرحمن الحبيب
مع ضغوطات وسائل التواصل الاجتماعي وبزوغ ثقافة السيلفي انتعشت ذواتنا أكثر من أي وقت مضى، فعند الحصول على ألف إعجاب على انستجرام مثلاً، يغمرنا شعور عابر بالرضا وأن كل شيء تحت السيطرة.. هذا الإحساس يتلاشى بسرعة، ويتطلب انتعاشًا مستمرًا؛ وعلى حد تعبير المحللة النفسية مويا سارنر: «إنه يجعل الحياة هشة، لتعيش الحياة من أجل ما ليس هي عليه بدلاً من أن تعيش الحياة كما هي عليه. إذا كنت تحاول دوماً أن تجعل حياتك كما تريدها، فأنت لا تعيش حقًا الحياة التي لديك».
يقول البروفيسور جوش كوهين: كان السعي وراء الكمال في خمسينيات القرن الماضي متجذرًا في معايير الثقافة الجماهيرية وصور الإعلانات الشهيرة للعائلة الأمريكية البيضاء المثالية التي تبدو الآن مثيرة للسخرية. كان السعي للكمال يعني التوافق السلس مع القيم والسلوك والمظهر والضغط النفسي ليبدو كل شخص مثل أي شخص آخر. أما الآن، فعلى النقيض، يشعر الساعون إلى الكمال بواجب التميز من خلال أسلوبهم الفريد وذكائهم إذا أرادوا الحصول على موطئ قدم في اقتصاد الانتباه.
في عام 1990، طور عالم النفس الأمريكي راندي فروست 35 سؤالًا لقياس الكمالية، وميَّز خلالها ثلاثة أنواع واسعة من الكمال وقد تكون متداخلة.. النوع الأول هو الكمالية الذاتية، وهي لازمة قهرية تصر دائماً أنه عليك فعل ما هو أفضل. إنه ينمي حافزاً قويا للغاية، ولكنه مرهق بالنهاية، لأنه يلزمك أن تصبح نسخة مثالية من نفسك: أكثر سعادة وأكثر لياقة وأكثر ثراءً (توجد هذه الصفات على أغلفة كتب المساعدة الذاتية).
النوع الثاني هو الكمال المحدد اجتماعيًا، والذي يجعلنا نحاول الرقي إلى مستوى توقعات الآخرين. غالبًا ما يعبر هذا عن نفسه في أوهام النقد، حيث يخبرنا الحوار الداخلي في أنفسنا كيف يجب أن نكون وماذا يجب أن نفعل لإرضاء تقييمات الآخرين. نسمع انتقادات لاذعة لأخلاقنا غير الكريمة أو ملابسنا القبيحة أو محادثتنا المملة.
ثالثًا يأتي الكمال الموجه نحو الآخر، والذي يحوِّل هذا الصوت الاضطهادي الداخلي إلى الخارج حيث نطالب من حولنا أيضًا بالارتقاء إلى مثالياتنا المستحيلة. يكون هذا أكثر ضررًا عند استخدامه كأداة للقوة: الوالد الذي يسأل طفله عن سبب حصوله على تسع درجات فقط، أو المدير الذي لا يعرف سبب عدم تمكن موظفه من التغلب على الإنفلونزا. الكمال الموجه نحو الآخر هو إسقاط، أي إيجاد الفشل وخيبة الأمل في الآخرين التي لا يمكننا تحمل رؤيتها في أنفسنا، في ستار واهٍ من النقد الموثوق.
من الناحية الصحية، ينعكس ذلك في مجموعة متنوعة من الأعراض: الاكتئاب والقلق، والاضطرابات الوسواسية، والنرجسية من النوع الذي يخفي ضعفا داخلياً، والأفكار الانتحارية، وخلل في الجسم واضطرابات الأكل...
السعي إلى الكمال يمكن أن ينمو خلال تجارب الطفولة، فقد لاحظ عالمان نفسيان بريطانيان، توماس كوران وأندرو هيل (2017) أن أولياء الأمور الذين يراقبون ويشرفون بقمع على الأنشطة الدراسية وغير المنهجية لأطفالهم، قد ساهموا في زيادة الرغبة المَرَضية بالكمال. إلا أن جوش يرى أن أنماطًا مختلفة جدًا من الأبوة يمكن أن يكون لها نتائج متشابهة. الطفل الذي يشعر بأنه لا ينال تقدير أبويه سواء في الدراسة أو في اللعب برغم ما يبذله من جهد سيصاب بحاجة دائمة للقيام بعمل أفضل.. فإذا حصل على تسعة من عشرة سيقال له لماذا لم تحصل على الدرجة الكاملة.. صوت الأب الداخلي الناقد بشدة، سيتم تضخيمه عادةً في وقت لاحق من قبل البالغين الآخرين في الحياة العامة مثل المعلمين أو رؤساء العمل.
ليس بالضرورة أن يكون السعي إلى الكمال مرضيًا؛ ففي عام 1978 م ميز هاماتشيك، عالم النفس الأمريكي، بين الكمال الطبيعي والعصابي. يمكن لمن يسعون للكمال العادي أن يضعوا معايير عالية لأنفسهم دون الانزلاق إلى النقد الذاتي العقابي. يمكنهم حتى الاستمتاع بالسعي من أجل التحسين. لكن الباحثين شككوا في تمييز هاماتشيك، بحجة أن الرغبة في أن تكون مثاليًا لا يمكن أبدًا أن تكون «طبيعية»، إذ لا يمكن أن يؤدي التوق إلى شيء مستحيل جوهريًا إلا إلى الشعور بالإحباط وعدم الكفاءة.
فكيف نحمي الطموح الطبيعي من غزوات الحماسة الكمالية؟ لا توجد إجابات سهلة، يقول جوش كوهين.. شيء ما يتعلق بكونك إنسانًا يجعل من الصعب الشعور بأننا قد فعلنا المطلوب.. نحن غير مستعدين لإلغاء الأمل بأنه سينظر إلينا يوما ما على أننا استثنائيون: الكائن المثالي الكامل الذي وضعه آباؤنا ذات مرة على قاعدة التمثال! طرح المحلل النفسي الفرنسي سيرج ليكلير فكرة مثيرة للاهتمام مفادها أن الحياة تضعنا في مهمة القضاء على هذا الطفل الرائع مجازيًا، يجب أن نتخلى باستمرار عن خيال الذات المثالية ونحزن على استحالة ذلك.
ويختم جوش بالقول: قد يبدو أن السعي إلى الكمال يدفعنا إلى تحقيق نجاحات البالغين، لكنه موقف صبياني في الأساس.. إنه يشبعنا بالاعتقاد بأن الحياة تنتهي فعليًا عندما نتخلى عن الأمل في أن نصبح أفضل من أنفسنا.. على العكس من ذلك، فهذه هي اللحظة التي يمكن أن تبدأ فيها الحياة أخيرًا.