لقد أثبت لنا التاريخ أن الكلمة ستظل تحتل مركز الصدارة الأولى في مجال التخاطب وترجمة الفكر.. سواء كانت الكلمة مكتوبة أو منطوقة أو مقروءة أو مسموعة كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (سورة الرَّحمن آيه 4)، وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة النحل آيه 78).
فالفكر واللُّغة كما يرى علماء اللُّغات حقيقتان متلازمتان في حياة الإنسان, وهما أبرز مظهر من مظاهر إنسانيته, وأعمق سبب من أسباب رقيه وتطور حياته. ولقد تجلت دقة كتاب الله الكريم في تسمية النّطق بياناً {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} لأن البيان هو الكشف والتعبير عن المحتوى.
فالكلمة أداة الإفصاح والتّعبير عن الفكرة، ووعاء المعنى الكامن في نفس المرء. وعندما نتحدَّث عن «الكلمة» فإننا نريد كلمة تضيء لنا الطريق وتكتشف لنا ذخائر الضاد معرفة وتجود أساليب التعبير والتحرير هدفاً وتقود لنا طريق الفضائل والقيم والمبادئ والمكارم سعادة حيث لا تنهض الكلمة بمقتضيات وحدها بل إنها عظيمة في ريادتها, عظيمة في قيادتها, عظيمة في أصولها الثابتة, وفروعها الضّاربة والكلمة في ديننا الإسلامي لها مفهوم ومدلول ومفعول ومن هنا كانت المسؤوليَّة تتوقف على الكلمة.
فالكلمة الراقية هي التي تقدم للقارئ الكريم حلو «الكلام» وحلو المعاني, وحلو «الأفكار», وحلو الأهداف فهي تسربل بسربال الجمال, وتحلّى بدقة الصّياغة من حيث نحوها وصرفها وبلاغتها وبديعها فإن الكلمة التي تتوخى الارتقاء بثقافة الشّعوب في طرحهم وفي لغتهم وفي تفكيرهم وفي آمالهم فإنها تمنحهم الغذاء الذّهني والوجداني السّليم أما ما يفسد الكلمة الجميلة, لفظاً أو معنى, أو هدفاً فهي منبوذة في دنيا الأدب الصحيح.
فإن للكلمة الجميلة سحرها العجيب وأثرها البليغ في السّمع والعقل والفؤاد وقد تغنى الشّعراء بسحرها فقد قال الشّاعر بشَّار بن برد:
وحديثها السّحر الحلال لو أنه
لم يجْن قتل الناسك المتحرِّز
وبالكلمة دعا نبي الرَّحمة محمَّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه الملوك وعظماء الأمم، وزعماء العشائر والأكاسرة، والقياصرة. وبالكلمة كتب الكتب، وأوفد الوفود، وبعث السرايا، وعلم النَّاس. وبالكلمة تم تبليغ دعوة الإسلام واستمر الصحابة والخلفاء الراشدون يترجمون كل كلمة قرؤوها من كتاب الله الكريم، أو سمعوها من نبي الرَّحمة محمَّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، وكانت ترجمتهم تطبيقاً عملياً ناجحاً صلحت به الدنيا، وقامت الحضارة.
وقد تحدَّث بعض الحكماء عن «الكلمة» وأثرها في النَّفس الإنسانيَّة ومن أقوالهم في الكلمة كما قال الغزالي:
- الكلمة اللينة تلين القلوب التي لا تلين!!
- والكلمة الخشنة تخشن القلوب التي لا تخشن!!
وقال أحد الأدباء الكلمة أغنى من المال وأقوى من الأبطال.
فبالكلمة آخى نبي الرَّحمة محمَّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه بين المهاجرين والأنصار فإن ديننا الإسلامي يريد أن يجعل من الكلمة مصدراً للعطاء والإصلاح، تملأ دنيا المرء، وتترسخ في أعماق الحياة، حتى يتذوق النَّاس طعمها وتستريح النفوس إلى سماعها، وتبنى الحياة بوحي من هداها. وبالكلمة يفصح المرء عن رغباته وحاجاته وتطلعاته وبالكلمة يضبط المرء لسانه وجوارحه وغرائزه. وبالكلمة يعبر الفرد عن رغباته كلها أو يخفي بعضها.. فتنشأ فيه عقد نفسية من جراء هذا الإخفاء، وتسمَّى «بعقد الإخفاء» ولا تحل هذه العقد إلاَّ بإفصاح جديد.. من جراء ذلك كله، فإن علماء النَّفس يؤكدون على جعل الكلمة عنصراً أساسياً في علم التحليل النفسي سواء في حالة اليقظة أو في حالة المنام... وبالكلمة تكون في أغلب الأحوال قوة الفصل والبتر معاً.
وبالكلمة لها معان متعدِّدة ووجوه مختلفة وأهداف متنوِّعة. وللكلمة معالم وحدود.. ولها دور كبير في حياة البشر. فالكلمة ليست عالماً «فوضوياً» لا نظام له، وليست الكلمة جسداً فارغاً من الرُّوح... وليست غباراً يثور في صحراء «اللاوعي» يحول بين الناظر وبين الرؤية الواضحة للأشياء. فالكلمة أكبر من ذلك وأعظم.
فقد قال نبي الرَّحمة محمَّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه: ((إن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في جهنم سبعين خريفاً)). أرأيت إلى هذا الإحساس العظيم بقيمة الكلمة وعظمة دورها. وأنت يا أخي الكريم تتعامل مع الكلمة... فإنك تتعامل مع أمر خطير.. ربما لسانك نزيه ثابت في دربك الطويل وربما صار لسانك تارة يطلق الكلمة كالسهم المسموم إلى قلوب تصير ضحايا لك من حيث لا تدري.
فالكلمة لها وقع مثير على أوتار المهج فالمرء تارة يتكلم بصورة عفوية وبساطة وارتجال دون صلف أو ادعاء أو تعال فالكلمة أحياناً تكون عاجزة عن التعبير. فهي لا تستطيع أن تعبر عن أفكارنا وعواطفنا وانفعالاتنا بشكل دقيق وأداء سليم شامل. فالكلمة إذن وما وراء الكلمة هي التي تصنع مغلاق النَّفس، وهي التي تصوغ مفتاحها... بجمال الكلمة الحكيمة، وسنا الموعظة الحسنة، وجلال الرأي السّديد تفتح المغاليق التي لا تفتح ومن خلال تلك المقدّمة القصيرة التي تتحدَّث عن أهمِّيَّة الكلمة ومعانيها وأهدافها ومقاصدها ومفهومها واستناداً على ما تحدَّث به خطيب الجمعة الماضية الشيخ خالد بن صالح العثيم وفقه الله كان عنوان خطبته «رسالة المسجد في الإسلام».
فقد استهل الخطبة بالمقدمة المتبعة في كل الخطب الدِّينية وبعد ذلك أخذ يسترسل الحديث عن مكانة المسجد في العصور الإسْلاَميَّة المتعاقبة فأعطى السّامعين من الُمصَلِّينَ نبذة مختصرة وشرحاً توضيحياً متناسقاً ومترابطاً بأسلوب أدبي راق وكلمات لغوية متنوِّعة تتسم الكلمة بالجد والعمق ألفاظها أنيقة مصطفاة فصيحة، تساير الأخيلة والمعاني عن دوره الحيوي والهام بجانب وظيفته الدِّينية وعن دور أئمة المساجد بشكل عام في التّوجيه والإرشاد والنّصح ومستنداً على قول الله عزَّ وجلَّ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل آية 125).
حتى يكون المسجد عاملاً في تهذيب النَّفس البشريَّة وتطهيرها فديننا الإسلامي الحنيف يؤكد دائماً مراراً وتكراراً على أهمِّيَّة الإرشاد والتبليغ والتبصير برسالة الإسلام الخالدة كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم»: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سُورة فُصلت آيه 33).
حيث إن المسجد يعتبر في تلك الحالة بمثابة صلة تعارف وتقارب وتعاون ومحور تآلف ومودَّة ومحبة بين أفراد المجتمع إلى جانب أنه مكان تعلم وإشعاع ثقافة وفكر وأدب ونور علم حيث يجد النَّاس علاجهم ودواء أمراضهم النَّفسية والاجتماعيَّة والروحية وكذلك أنه خير وسيلة لمعالجة بعض المشكلات التي تحصل بين النَّاس داخل الحيِّ أو في البلدة أو في الريف أو في داخل المجمعات السكانية فلتكن بيوت الله مصابيح تضيء للبشر معالم الطريق حيث إن بيوت الله لها رسالة سامية وعظيمة في نشر الخير والثواب والإصلاح والإشعاع بين البشر حيث إن الثّقافة المتنوِّعة التي يتحلى بها الخطيب ذات الشمولية فإنها تصنع موقفاً وتجدد طرحاً إيجابياً مختلفاً في إدارة شؤون الحياة وعلى الرغم من قصر كلمات الخطبة فقد شدّ الأسماع، وامتاز بالإبداع مع الإمتاع وجاء صوته كما أسلوبُه حيث إنه خطيب يهزّ السّامعين، ومحدث بارع تستميل إليه القلوب يمتاز بحسن الأداء وبلين العريكة وحسن الأخلاق والتواضع وإداري تشتاقه إدارته بكل حب وتقدير واحترام.
واختتم خطبته داعياً الله سبحانه وتعالى أن تكون بيوت الرحمن رسالة خير وبرهان كما كانت في الأزمنة الماضية فهي دعوة إلى الحق تصل المرء بربه وسير على منهج نبي الرَّحمة محمَّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه.
والله الموفق والمعين.