د. تنيضب الفايدي
تُعَدُّ العيص إحدى محطات الطرق التجارية قديماً، حيث إنها محطة مهمة لقوافل قريش في رحلة الصيف إلى الشمال، كما أنها -العيص- من محطات طرق التجارة قديماً التي تصل بين القرى الظاهرة مثل العلا (الحجر) وخيبر وتيماء والشام، وكذلك الرحلات التجارية ما بين مأرب باليمن إلى البتراء شمال الجزيرة العربية. وقد كثر الحديث عن العيص، ومن معانيها الشجر الملتف الأصول الذي يصعب اختراقه، وتقع العيص شمال شرق ينبع على ارتفاع 2200م عن سطح البحر ضمن الدرع العربي الذي يمتد من اليمن جنوباً حتى خليج العقبة شمالاً، ويتشكل الدرع العربي من مجموعة كبيرة جداً من الحرار وهي -الحرار- جمع حرة أو الحرات: مواقع بركانية عبارة عن صخور منصهرة سوداء وتسمى علميًا (lava) أو اللابة، واللابة كلمة عربية الأصل حيث وردت في تحديد حرم المدينة المنورة: قال صلى الله عليه وسلم: «إني أحرم بين لابتي المدينة: أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها» رواه مسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإني أحرم المدينة، حرمٌ ما بين لابيتها وحِماها كلّه لا يُختلى خلاها، ولا ينفّر صيدها..) رواه أحمد. واللابتان اللتان وردتا في الحديثين السابقين هي اللابة الغربية (الحرة الغربية وتسمى حرة الوبرة، واللابة الشرقية وتسمى الحرة الشرقية أو حرة واقم المدينة المنورة، إضافة إلى حرة شوران، وحرة بني قريظة التي ثار بها البركان بالمدينة المنورة عام 654هـ، وحرة خيبرة (حرة ليلى) وحدث بركان بها عام 1800، شكل ما يسمى بالرأس الأبيض (القدر والقدير) والحرار تحيط بالعيص منها حرة الشاقة (لونير) التي تعتبر مركز الزلزال الذي حدث عام 1429هـ، وتتكون العيص من مدينة العيص، ومن وادي العيص، ومجموعة من القرى المحيطة بها، والمنتشرة ما بين الحرار، نظراً لأن الحمم البركانية شكَّلت تربة طينية خصبة، استغلها الأهالي للزراعة ولاسيما الزراعة المعتمدة على الأمطار الموسمية، كما تعددت الأودية التي تنحدر من تلك الحرار ويسكنها الأهالي وما حدث أو يحدث من زلازل ناتج عن أسباب طبيعية نتيجة حركة المصهور الأرضي والنشاطات البركانية، حيث إن ضغط طبقات الأرض والحرارة الشديدة يسببان أو يؤثران على حركة ذلك المصهور، ويتحرك باستمرار، وكبار السن من أهالي العيص عايشوا مثل ما حدث قبل عقود عدة، بل أشد، كما أن انبعاث المصهور وتشكيل البركان أو حدوث الزلازل بقدرة الله {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} ينطبق ذك على ما يحدث في الأرض وفي أي كوكب آخر، وما يحدث من خسوف وكسوف أهلها من آيات الله، ولا علاقة للبشر بالظواهر التي يقدرها الله سبحانه وتعالى ويسميها العلماء الظواهر الطبيعية كالبراكين والزلازل والكوارث وإنما على الإنسان أن يقابلها بالمواقف المناسبة، ويبذل كل ما في وسعه للإنقاذ والتأقلم مع ما يناسب كل كارثة. وأصبحت العيص في العصور الإسلامية محطة لطرق الحجاج حيث توجد بها بعض بقايا البرك التي تحتفظ بالماء على طرقهم، كما تتعدد الآثار بالعيص ويدل ذلك على قدم موقعها حيث يصل تاريخ بعض تلك الآثار إلى (4000) سنة، حيث تثبت الأبحاث المتعددة أن للعيص علاقات مع حضارات شمال غرب الجزيرة العربية دل على ذلك تماثيل وُجدت في العيص مشابهة لأخرى وُجدت لبني لحيان في دادان، كما أن لها علاقة بالأنباط والرومان، كما وُجدت علاقة بين تيماء والعيص حيث ذكرت بعض المصادر بأن بئر هداج الموجود في تيماء حالياً وُجد مثله في العيص، والبناء الأثري القديم أي قلعة الفرع (قصر البنت) بالعيص بناء روماني أي قبل الميلاد، وذلك يدل على أن العيص عاشت الحضارات المحيطة بها، وقلعة تاريخية يطلق عليها العامة قصر البنت، وذلك كما تذكر بعض المصادر، لكن ذلك غير مؤكد حيث يرى الكاتب أن هذه القلعة بُنيت في تاريخ متأخر جداً، ويحتاج الأمر إلى تحقيق من قبل الباحثين المتخصصين في تاريخ البناء. وأصبحت العيص في العهد النبوي منطلقاً لبعض السرايا وذلك لأن بعض المسلمين خرج مهاجراً من مكة المكرمة تاركاً أمواله وفاراً بدينه من أذى قريش التي استولت على أملاك المسلمين، فلابد من عمل يقوض القدرة الاقتصادية لقريش ويفجعها في تجارتها كما فُجع المسلمون بأموالهم وأهلهم بمكة المكرمة، فكانت العيص موقعاً لبعض سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم لقطع الطريق التجاري لقريش، فقد حدثت ثلاث سرايا بالعيص ذاتها، كما حدثت غزوتان جنوب وشرق العيص والسرايا هي كما يلي: سرية حمزة بن عبد المطلب، سرية زيد بن الحارثة إلى العيص، أبو بصير يتخذ العيص مركزاً لقطع تجارة قريش.
وقد أثرت السرايا التي حدثت بالعيص وكذا الغزوات التي وقعت قريباً منها أثر تأثيراً بالغاً على اقتصاد قريش وتجارته، وقد عبر عن ذلك أبو سفيان بن حرب حين أصاب الإجهاد اقتصاد مكة بقوله: «وكانت الحرب قد حصبتنا». (ابن حجر الفتح ج1/ ص34) وعبّر عنه صفوان بن أمية بقوله: «إن محمداً وأصحابه قد عوَّروا علينا متجرنا؛ فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعوهم وخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس موالنا، فلم يكن لها من بقاء، ونما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء». (الواقدي: المغازي، ج1/ ص197).
هذه إضاءات عن العيص وتاريخها حيث تمثل جزءاً غالياً من السيرة المكانية كما أنها جزء نفيس من الوطن الغالي.