رؤية - خالد الدوس:
إن تهديد البيئة ليس وليد اليوم، بل يضرب بجذوره في الأزمان البعيدة. غير أنه لم يكن يشكل قضية تسترعي الانتباه لعدم الشعور بمخاطره. وقد تبدل الوضع الآن، حينما بدأت الثورة الصناعية والزراعية، وتهافتت الدول على تحقيق أسرع وأكبر معدل لنموها الاقتصادي والاجتماعي، وهنا أضحت البيئة أكثر عرضة للاستغلال غير الرشيد لمواردها الطبيعية، وإدخال الملوثات من مواد كيميائية, وصناعية, ونفايات المصانع ونواتج احتراق الوقود.. إلخ. عندئذ أصبحت الحاجة ملحة إلى قواعد قانونية, أو نظامية مؤسسية تضبط سلوك الإنسان في تعامله مع بيئته على نحو يحافظ عليها توازنها الأيكولوجي.
ومن الطبيعي أن يجيء ميلاد قانون حماية البيئة وذلك مع تفاقم الأخطار البيئية, وارتفاع معدلات التلوث ومظاهره, وتأثيرها المباشر وغير المباشر على صحة الإنسان وحياة الكائنات الحية سواء كانت نباتية, أو حيوانية, وبالتالي أصبح التخلص من تلك المشكلات البيئية وأخطارها مطلبًا ملحًا حتى تظل البيئة على طبيعتها التي فطرها الله عليها.
وللإنسان حقٌ في أن يعيش في بيئة نظيفة وصحية, وهو حق مشروع سبق أن أرسته أحكام الشريعة الإسلامية الغراء, وجاءت النظم القانونية الحديثة لتؤكد الالتزام التشريعي بحماية البيئة من التلوث والعبث والتخريب والإفساد في الأرض، والتعدي على مصادرها الطبيعية, وإحداث بالتالي خلل في توازنها البيئي, لاسيما بعد عقد مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة الإنسانية الذي عقد في مدينة استكهولم في السويد عام 1972 ، بعد أن أدخل الإنسان في بيئته دون أن يدري وبغية تحقيق تقدمه الحضاري ورفاهيته الاقتصادية الكثير من الملوثات من مواد كيميائية, ومبيدات وملوثات صناعية بسبب احتراق الوقود وما تنفثه المصانع والسيارات وغيرها من ملوثات تهدد الحياة الإنسانية وجميع الكائنات الحية بالفناء، ولذلك حث الإسلام على الحفاظ على البيئة, وصيانتها وحماية مصادرها الطبيعية, ونظمها الأيكولوجية وامتدادًا للاهتمام الإسلامي بالبيئة, والمحافظة على مكوناتها الحيوية شرعت الكثير من المجتمعات والأمم والهيئات والمنظمات الدولية لسّن قوانين ضابطة, وتشريعات صارمة بهدف المحافظة على الأم الحنون (البيئة) من أمراض التلوث التغيرات المناخية وانعكاساتها الضارة. كون القوانين التشريعية تعد بمثابة الوسيلة الرئيسية في ضبط الأشخاص وتجاوزاتهم, كما تعتبر القوانين والأنظمة المتجددة ضرورية في الثقافة المادية المتغيرة، وكلما سادت العلاقات الاجتماعية ذات النمط الثانوي، زادت الحاجة إلى تنظيمات ذات طابع قانوني، وذلك لضمان وجود حد أدنى من العدالة الاجتماعية، فالقوانين والعقوبات هي التي تدعم البناء الاجتماعي للمجتمعات المعاصرة, وقد أصبح القانون وأنظمته الصارمة هي الوسيلة الأكثر أهمية التي تستطيع الحكومات العربية عن طريقها أن تحكم سلوك الأفراد, وضبط توازنه, ولذلك اتجهت اهتمامات الحكومات الحديثة إلى تأكيد التشريع الاجتماعي في مجال الضبط الاجتماعي.
وتبعًا لذلك ذهب عدد كبير من علماء الاجتماع إلى أن فاعلية القانون لم تكن مقتصرة على مدينة معينة، أو مجتمع بالذات، فلا يمكن أن نتصور وجود حياة اجتماعية منظمة تسير بلا قانون أو نظام، وقد ذكر لنا الرحالة والمؤرخون أن السلوك المتوافق مع القانون ظهر منذ وقت مبكر، أما الأثنولوجيون فقد أكدوا الشيء نفسه وهو وجود القانون بين القبائل البدائية، فالقانون ظاهرة اجتماعية وجدت في كل زمان ومكان, وهو عند علماء الاجتماع ظاهرة اجتماعية ثقافية. علاوة على أن القوانين وسيلة رسمية نظامية من صنع البشر استطاعت أن تفرض وجودها وفق التطورات الاجتماعية والتغيرات الثقافية، لما تتميز به من صفات جعلتها وسيلة ضبط اجتماعية مؤثرة في المجتمع البشري، ومتسمة بالقوة والالتزام وسرعة التأثير، فأصبحت بمثابة الماكينة الأكثر تخصصًا, والأكثر إنجازًا للضبط والسلوك الحضاري الواعي.
ويرجع إصدار التشريعات الخاصة بحماية البيئة إلى ما قبل القرن التاسع عشر حيث أصدر عدد من حكام المقاطعات في دول كثيرة تشريعات وأوامر تحرم إلقاء القاذورات, أو الفضلات في الأنهار والبحيرات حفاظًا على الصحة العامة، كما اهتم بعضهم بإصدار الأوامر التي تحرم صيد أنواع معينة من الطيور, أو الحيوانات، وكأن ذلك بدافع الحفاظ على هذه الفصائل لخدمة الإنسان, والمحافظة على صحة البيئة ومكوناتها الحيوية. وفي ضوء ذلك تمكن الإنسان عندما ابتكر هذه الوسيلة التشريعية بتنظيم سلوكه وضبط توازنه, غير أن المجتمع قد أعطى الحق للقانون بممارسة القوة من أجل الحفاظ على أمنه وبيئته، وكما يقول هوبل القانون له أسنان يمكن أن تعض بها إن لزم الأمر، ومن دون هذه القوة يصبح مجرد اسم لا معنى له , أو نار لا تحرق , ونور لا يضيء.
وقد درس (مونتيسكو) 1689 - 1755 أصل القوانين الوضعية, وقرر أن الغاية منها هي تنظيم علاقات الأفراد في المجتمع الإنساني وحملهم على ما ينبغي أن يكونوا في معاملاتهم الاجتماعية, وسلوكهم تجاه بيئتهم، وذهب كثير من علماء الاجتماع إلى توسيع مفهوم القانون، بحيث وجدوا أن الأفعال جميعها التي تؤدي بحكم أنها حقوق لنا, أو واجبات علينا هي تحقيق للمعايير القانونية والمعايير القانونية في رأي الكثيرين تعد جسدًا وقلبًا وروحًا لأي جماعة منظمة، ذلك لأن من دونها ينعدم وجود النظام, وتقل بالتالي قدرة الجماعة على أداء وظائفها بفاعلية. مما قد يتصدع بناؤها ويصبح وجودها ضربًا من المستحيل.
ولا مناص من أن القانون يحقق للمجتمعات المعاصرة الأمن سواء الأمن البيئي, أو الأمن المائي, أو الأمن المجتمعي.. إلخ، والقانون معروف أنه يعطي لكل فرد في مجتمعه وضعه ويحدد له وظائفه، أي أنه يقوم بالتقسيم الاجتماعي للعمل مما يؤدي بالتالي إلى زيادة فاعلية هذا العمل. ولا شك أن الاحتفاظ بالسلام الاجتماعي والعمل على تحقيق الأمن, وخلق التنظيم الاجتماعي إنما هي أنماط مختلفة عن التشريعات القانونية, فالقانون وفروعه المختلفة هو نظام اجتماعي يهدف إلى ضبط السلوك وتحقيق العدالة الاجتماعية والمحافظة على المكتسبات الوطنية والتصدي لكل من يهدد بناءه الاجتماعي أو البيئي. فالتنظيم الاجتماعي لموضوع التلوث البيئي يعد منطلقًا مهمًا, ولكن الأهم من ذلك ضرورة توعية الفرد بدوره كإنسان ينبغي ألا يحمل السلاح ضد نفسه, وضد الأجيال القادمة طالما بقي الإنسان متحديًا للبيئة يتربص بها لينقض على منجزاتها ومواردها الحيوية, ولا يمكن أن تصنع شيئًا مما وضعه المجتمع من وسائل وتشريعات, أي لا تكفي القوانين والتشريعات الاجتماعية وحدها التصدي لذلك التعدي والانتهاكات البيئية الجائرة إذا لم يكن القائم على تطبيقها مقتنعًا بجدواها والدواعي وراء ظهورها, وقد اهتم المشرع القانوني في جميع دول العالم بالبيئة, وحددت عقوبات مختلفة على الفرد الذي يتجاوز المعايير والقواعد المحددة, ويخالف التشريعات الاجتماعية التي تهدف لحماية البيئة ومواردها الطبيعية, وغير الطبيعية من هواء وماء وتربة وطيور وغابات وغيرها من الموارد الحيوية التي لا يستطيع الإنسان العيش من دون أجوائها الصحية ومناخها السليم. وعلى صعيد المجتمع السعودي فقد ازداد الاهتمام بالبيئة خلال العقود الزمنية الثلاثة الأخيرة وارتفع مستوى التفاعل مع كل ما يهدد البيئة ومواردها الطبيعية والعمل على تحسينها وإنمائها, بعد إنشاء جهاز حكومي يُعنى بشؤون الأرصاد والبيئة وهو الهيئة الوطنية للأرصاد وحماية البيئة عام ( 1981 )، (المركز الوطني للأرصاد حالياً) وقامت هذه المؤسسة الحكومية بدورها الريادي والأرصادي في هذا المجال الحيوي من خلال وضع النظام العام للبيئة, وصياغة لائحته التنفيذية والذي يهدف بشكل أساس إلى تنمية العمل البيئي والأرصادي المتوازن بجانب الاهتمام بالبيئة, والحفاظ على مواردها الطبيعية ورفع مستوى الوعي البيئي في المجتمع السعودي وصولاً إلى جعل التخطيط الشامل للتنمية في كل قطاعاها بما يحقق مفهوم التنمية المستدامة. وهو الهدف الأسمى الذي تسعى إليه كل دول العالم المتقدمة.
وتهدف صياغة القوانين والتشريعات الاجتماعية في قالبها البيئي ووضع النظام العام للبيئة ولائحتها التنفيذية إلى وضع الإجراءات والقواعد والأسس القانونية لتنظيم كل الأعمال المؤثرة على البيئة, بالإضافة إلى تنسيق عمليات الاستجابة, والتحكم في التلوث, وحماية الموارد الطبيعية, وبرامج صناديق الاستثمار كما يتضمن المخالفات القانونية وما يندرج تحتها من عقوبات لحماية الإنسان من التلوث في الحاضر والمستقبل، والحفاظ على الوسط الطبيعي والتوازن الأيكولوجي في المجتمع السعودي. كما ازداد اهتمام الحكومة السعودية بالبيئة ومكوناتها بشكل أشمل وأوسع عندما تم إنشاء وزارة البيئة والمياه والزراعة عام ( 2016 ), في ضوء تزايد الاهتمام بقضايا البيئة والضغوط على عناصرها الحيوية والتنوع الطبيعي, وتحقيقاً لأهداف حماية النسق البيئي بموجب قانون الحماية البيئية وقواعدها التشريعية التي تساهم في حماية المجتمع وصحة الإنسان والكائنات الحية من جميع التلوثات والأضرار الناتجة عن المخلفات الصناعية والتحويلية, وإعداد الخطط والبرامج والمشاريع اللازمة لتحقيق التنمية الوطنية المستدامة, وصنع جودة الحياة, وحفظ الطبيعة والإنسان والتغلب على كل الظروف والتحديات التي تواجه التغيرات المناخية.
وامتداداً لهذا الاهتمام البيئي جاءت مبادرة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان بتدشين حقبة خضراء جديدة للمنطقة إيماناً بتأثير التغير المناخي على البيئة الطبيعية والأمن والاقتصاد, وتغطية المساحات الشاسعة بالنباتات والمسطحات الخضراء والتقليل من آثار الانبعاثات الكربونية التي تهدد الصحة العامة, وذلك على هامش افتتاح أعمال قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر في العاصمة الرياض مؤخراً بمشاركة دولية واسعة يتصدرها رؤساء وقادة الدول وصناع القرار في العالم راسماً مهندس الرؤية الوطنية الطموحة ( 2030 ) خريطة طريق متكاملة الأركان والاتجاهات البيئية لحماية الشرق الأوسط من ظواهر التغير المناخي والتلوث, فضلاً عن مبادرات إنشاء منصة تعاون لتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون, وتأسيس مركز إقليمي للتغير المناخي, وإنشاء مجمع إقليمي لاستخلاص الكربون واستخدامه وتخزينه, إلى جانب تأسيس مركز إقليمي للإنذار المبكر بالعواصف, وتأسيس مركز إقليمي للتنمية المستدامة للثروة السمكية, وإنشاء برنامج إقليمي لاستمطار السحب, والأكيد أن هذه المراكز والبرامج سيكون لها دور محوري ونقطة تحول في إيجاد الأرضية الصلبة والبنية التحتية لحماية الأم الحنون (البيئة) والحد من مخاطر التغير المناخي والتلوث والكوارث الطبيعية التي تهدد صحة الإنسان والكائنات الحية, مع وضع أسس دبلوماسية المناخ تعزيزاً للإرادة السياسية لإحداث تغيير جذري نحو القضايا البيئية الحيوية من أجل كوكب صحي.. نقي أفضل للبشرية عامة.
** **
- باحث ومؤلف كتاب: علم اجتماع البيئة