من المقالات الجميلة لأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه (صور وخواطر) ص143، مقالة نثرَ فيها قصيدةً بديعة من الأدب الإنكليزي، للشاعر البريطاني توماس غراي (1716- 1771م) ونشرها عام 1936م؛ ليكون أولَ من نقل هذه القصيدةَ إلى العربية. وهي بعنوان: (مرثية في فِناء كنيسة ريفية) وصفها بقوله: إنها من أبلغ المراثي في الشعر الإنكليزي.
وهي جديرة حقًّا بالقراءة والتأمُّل.
وما أودُّ الوقوفَ عنده هو العنوانُ الذي اختاره الشيخ لمقالته: (مرثيَّة غراي)، فقد ضُبطت كلمة (مرثية) فيه بتثقيل الياء (مرثيَّة)، وهو خطأ مُفسد للمعنى!
والصواب أن تُضبط بالتخفيف (مَرْثِيَة).
ومثلُ هذا الخطأ وقع في كتاب العالم المربِّي الشيخ محمد صالح الفُرفور رحمه الله، بعنوان: (المحدِّث الأكبر وإمام العصر العلامة الزاهد السيِّد الشريف الشيخ محمد بدر الدين الحسَني المتوفَّى 1354هـ = 1935م) ص181، فقد أُثبتت قصيدةٌ للمصنِّف الفُرفور في رثاء الشيخ البدر، بعنوان: (مَرْثيَّةُ المصنِّف الشيخ) كذا ضُبطت (مَرْثيَّةُ) بتثقيل الياء أيضًا!
بيان الصواب:
(مَرْثِيَة) بتخفيف الياء: مصدرٌ ميمي على زِنة (مَفْعِلَة)، مثل: مَغْفِرَة، ومَعْرِفَة، ومَعْذِرَة.
والمراد به: قصيدة الرِّثاء، تسميةً بالمصدر.
و(مَرْثِيَّة) بالتشديد: اسمُ مفعول على زِنة (مَفعُولَة)، وأصلها (مَرْثُويَة). مثل: مَحْمِيَّة، ومَقْضِيَّة.
والمراد به: المرأة التي تُرْثَى.
يُقال: رَثَى الميِّتَ يَرْثيهِ، رَثْيًا، ورِثاءً، ورِثايَةً، ومَرْثاةً، ومَرْثِيَةً، إذا بكاهُ وعدَّد محاسنَه.
فهو راثٍ، والميِّتُ: مَرثِيٌّ، والميِّتةُ: مَرْثِيَّة (بالتثقيل).
انظر اللسان لابن منظور، والقاموس المحيط للفِيروزابادي (ر ث ي).
وما يُقال في بكاء الميِّت وذكر فضائله من شِعرٍ وغيره: مَرْثاةٌ ومَرْثِيَةٌ (بالتخفيف)، والجمع مَراثٍ.
انظر (معجم أخطاء الكتَّاب) لأستاذنا صلاح الدين الزعبلاوي رحمه الله، (380) ص221.
و(الحصائل) لأستاذنا د. محمد أحمد الدالي حفظه الله، 2/ 21.
ولا تكاد تجدُ هذا المصدرَ مضبوطًا على الصواب (بالتخفيف) في كتابات المعاصرين، ويا للأسف! وقد اكتفيتُ بهذين المثالين من كتابَي الشيخين الطنطاوي والفُرفور رحمهما الله، لمكانة الرجُلين في علوم العربية وآدابها.
ولعلَّ بعضَ من ضبط (مَرثِية) بالتثقيل قد اغترَّ بما ندَّ عن قلم محقِّق الصَّحاح (تاج اللغة وصَحاح العربية) الأستاذ أحمد عبد الغفور عطَّار رحمه الله؛ إذ ضبط اللفظ بالتثقيل في عبارة الجوهري 6/ 2352: «ورَثَيتُ الميِّتَ مَرْثِيَّةً ورَثَوتُهُ أيضًا، إذا بكَيتَه وعدَّدتَ محاسنَه، وكذلك إذا نظمتَ فيه شِعرًا».
وقد حمَّلتُ المحققَ جَريرة الخطأ لا المصنِّف؛ لأن ابنَ بَرِّي سكتَ في حاشيته (التنبيه والإيضاح عمَّا وقع في الصَّحاح) في هذا الموضع، ولم يتعقَّب الجوهريَّ بشيء. وكذلك ابنُ منظور في (اللسان) أورد المصدرَ بالتخفيف دون تعقُّب، ولا يخفى أن (الصَّحاح) وحاشيةَ ابن برِّي عليه، من الأصول الخمسة التي أقام بنيانَ معجمه عليها.
ثم إن الزَّبيدي في (التاج) حين ذكر مصادر الفعل (رَثَى) ختمَها بـ (مَرْثِيَة) ونصَّ أنه مخفَّف، ثم قال: وعلى الأخير اقتصَر الجوهري، دون أن يتعقَّبه.
كلُّ ذلك يدلُّ على أن الكلمة وردت على الصواب في الأصول التي نقلوا عنها من (الصَّحاح).
ولو أن المحقِّق رجع إلى تلك المصادر الناقلة عن الصَّحاح، وكان ينبغي أن يفعل= لما وقع فيما وقع فيه من خطأ! وقديمًا قالوا: مَن سَلكَ الجَدَدَ أَمِنَ العِثار.
ثم وقفَني على بعض أصول (الصَّحاح) الأخوان الباحثان الفاضلان صالح الجسَّار وأبو أحمد الكندي، شكر الله لهما وأحسن إليهما، ومنها أصولٌ نفيسة عَتيقة، وقد ضُبطت (مَرْثِيَة) فيها كلِّها بالتخفيف، ضبطًا واضحًا صريحًا، وبهذا قطعَت جَهِيزةُ قولَ كلِّ خطيب.
وكان نبَّه على الخطأ الواقع في مطبوع (الصَّحاح) محمد العدناني في (معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة) ص252، وظاهرُ كلامه تخطئة المصنِّف لا المحقِّق!
والله تعالى أعلم.
ملحوظة:
بمراجعة الطبعات القديمة من كتاب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وجدتُّه أهمل ضبط الكلمة تمامًا، مما يعني أن السَّهو في الضبط وقع من المعتني بكتابه بعد وفاته، سِبطه الفاضل الصديق الأديب الأستاذ مجاهد ديرانية، وفقه الله وسدَّده.
** **
- أيمن بن أحمد ذو الغنى
الرياض @aymz74