قراءة عجلى في سيرة الدكتور القحطاني الثقافية:
سأحاول أن ألج لقراءة هذه السيرة من المداخل التالية:
كثير هم المثقفون؛ لكن القلة منهم تتمكن من التعبير عن مخزونهم الثقافي والمعرفي؛ والقحطاني رزقه الله بسطة في القول وعمقا في التعبير؛ حتى إنه إذا تكلم أصخت إذنك لتسمع المزيد من كلامه وتود أنه لا يصمت عن كلام ينزل على القلب حلاوة واستنفارا لطاقات المتلقي في تلقي هذا الكلام وتفجير طاقاته؛ ولا بد أن يؤول هذا الأمر إلى المدخل التالي:
* القحطاني الكاتب: له مؤلفات في مجالات متعددة تميزت بالمعرفة المتخصصة؛ وارتادت مناطق ليست على قارعة الطريق؛ استثمر فيها حسه الموسيقي؛ وقربه من المثقفين والشعراء ودرايته بهم؛ فكانت له عدد من المؤلفات منها: بين معيارية العروض وإيقاعية الشعر؛ القوافي للإربلي؛ وشعراء جيل (سرحان ـ عرب ـ مدني). أما المدخل الثالث؛ فهو خاتمة المداخل ولبابها؛ وهو:
* القحطاني خادم الثقافة: وفي هذا المجال أستطيع أن أقول إن القحطاني صديق الثقافة؛ فهو يخدم الثقافة لأنه صادقها ومنحها بيته وحضنه الدافئ في صالونه الثقافي الذي يعقده مساء الأربعاء؛ ولذلك سمّى هذه الجلسة الأربعائية؛ ونظرا لصداقته العميقة مع المثقفين كان صالونه وقت انعقاده عامرا بالحضور؛ الذين يحضرون وهم على قناعة بعمق الفكر الذي يطرح في الجلسة؛ وعمّق هذا أن القحطاني حريص على تعميق علائقه بالمثقفين؛ فهو الحريص على السؤال عنهم وتتبع أخبارهم؛ وقد أفضل عليّ مشكورا أثناء وعكتي الصحية أن زارني في المستشفى؛ ولم يكتف بذلك بل شرفني بزيارتي في البيت في الطائف برفقة صديقه المحبوب؛ الدكتور يوسف العارف؛ وكان يدعوني لأمسياته؛ وفي إحدى الأماسي استضافني في أمسية سعدت بها خاصة أنها كانت النشاط الأول لي بعد أن أُبلتُ من مرضي بحمد الله.
ونظرا لأن القحطاني لا يخدم الثقافة للجاه وللشهرة؛ فقد كان دقيقا في اختياراته؛ وقادرا على التنويع بين طبقات مختلفة؛ فتجد من حضورها الوزير والأكاديمي؛ والمثقف الذي كان يظن نفسه مغمورا؛ فإذا حضر عند القحطاني آنس من نفسه شهرة ومهابة؛ ودعا أصدقاءه ومحبيه؛ ليشهدوا؛ حضوته عند القحطاني.
ولم يقتصر نشاط الأربعائية على الجلسات؛ بل جاوز ذلك إلى النشر؛ فنشرت عددا من المطبوعات للدكتور؛ وغيره من المثقفين رواد الأربعائية وغيرهم؛ وبحكم خبرته الأكاديمية والبحثية تلقى منشوراته القبول والرواج.
وقد حظيت جلسات صالونه ومنشوراته بالتغطيات الصحفية المميزة.
* بداوته: وفي هذا المجال يظهر القحطاني البدوي المعتز ببدواته وأصالته التي لم تكدر صفوها الحضارة والتمدن؛ بل زادته بها اعتزازا وفخرا؛ فهو صاحب الكرم الحاتمي لمن يستضيف؛ والذي يؤنس ضيفه مزاحا ونكتة؛ حتى يأنس الضيف؛ ويشعر أنه رب المنزل؛ يشعرك أنه المؤسر الذي يبذل ما لديه لضيفه دون بطر أو فشر؛ وهذا يذكرني بالقول المشهور:
- «فإما كرام مؤسرون لقيتهم؛ فحسبي من ذو عندهم ما كفانيا»
تشعر أنك في ضيافة أبي محسن تشبع بالخلق الكريم؛ وتأنس به مع الزاد السخي الذي أنبتته وغذته وسقته نفس أبية معطاءة باذلة للحب والمعروف؛ فهنيئا لك أستاذي الجليل بهذه الأخلاق الرفيعة؛ ورزقني الله وقارئ هذه السطور مثلها؛ وأظن أنه آن لقلمي أن يعود في غمده؛ حتى لا أهذر؛ فأمامي صفحة بيضاء نقية؛ ينبغي ألا استنفدها؛ وأن أترك للقارئ الهادئ؛ أن يفجر من طاقاتها؛ ما يتفجّر له بعيدا له عن هذري؛ وذكرتني كلمة التفجير هذه التي طار بها الحداثيون؛ واستسمجها التقليديون! مدخلا آخر للحديث عن القحطاني؛ وهو:
* موقفه من الحداثة: وفي هذا المحور أستطيع أن أقول: إن القحطاني عايش الحداثة موقفا وحداثة؛ فكان موقفه منها موقف الهادئ الرزين؛ الوسطي في فكره وتقديمها للآخرين؛ فلم يحجب نفسه وفكره وصالونه عن استقبال الحداثيين والفكر الحداثي؛ في الوقت الذي ترك فكره المتفرد؛ يرتع في مرعاه؛ يأخذ وردا من هذا وغصنا من ذاك؛ كما سبق أن بيّنت حين ذكرت بعض مؤلفاته؛ وهنا لا بد لي من التسلط على قلمي؛ وجزره بكل عنف أن يصمت؛ وأن يحذر الهذر؛ ونافلة القول؛ أمام هذه الشخصيّة التي يصدق فيها قول القائل:
«هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجّته المعروف؛ والدّر ساحله»
** **
- د. عالي القرشي