عبد العزيز الصقعبي
إلى:...
اعذرني إذا قلت لك إنني نسيت اسمك، وبدأت ملا محك تختفي من ذاكرتي، ولكن تذكرتك عند مروري للمكان الذي كنت أراك فيه دائماً، قبل عشرات السنين، هذا المكان تحول من محل لبيع الخضراوات والفواكه إلى محل للألعاب الإلكترونية، هذه الألعاب مخصصة للصبية، لا تعرفها مطلقاً، لأنك قبل أكثر من نصف قرن، حينما كنت تجلس في دكانك، في الوقت الذي تعرف أنه لن يأتي زبون ليشتري منك، تخرج لوحاً خشبياً أنت قمت بتهيئته ليكون مربعاً ورسمت عليه خطوطاً متقاطعة، ليطلق عليه البعض «المقطار»، ويعرفه البعض «بأم تسع»، كنت تفتخر بحجارة المرو البيضاء الصغيرة التي تلعب بها، بينما يستخدم غريمك الحجارة السوداء الصغيرة، عموماً هي لعبة تلعبها مع بعض الرجال الذين يفضلون الجلوس عندك، وتردد وقتها «الفاضي يعمل قاضي»، كنتُ أقف عند المدخل وأراقبك وأنت منهمك باللعب، أراقب فرحتك بالفوز، وأراقب حرصك على متابعة كل حركة يقوم بها غريمك، وغضبك حين يتلقف أحد بمساعدته، كنت أقف للحظات وأراقبك، لا أعرف تلك اللعبة، ولست مؤهلا وقتها للعبها، كنت بعمر أصغر أبنائك، وأنت أكبر من والدي البعيد عن دائرتك، أنا ألعب بالشارع، وأمر من أمام دكانك الصغير لبيع الخضار والفاكهة وأراك منهمكاً بالبيع أو اللعب.
ذات يوم وكصبي لا يرقب بصورة دقيقة ما حوله، لم أنتبه أن دكانك مغلق منذ مدة، إلا بعد أن فوجئت بطلب غريب من ابنك الصغير والذي أعرف أن اسمه عبد ربه فقط، كان يحمل ذلك اللوح الخشبي ومعه الحجارة، طلب مني أن نلعب، جلسنا على أرض ترابية وأخبرته أنني لا أعرف كيف ألعب، وأضفت قائلا «ألا يغضب والدك وأنت تأخذ لعبته»، بهدوء قال «والدي مات»، لم أعرف أنك كنت مريضاً إلا بعد موتك، أخبرني ابنك، قال إنك كنت تعاني من عدة أمراض، سمع أمه تخبره بها، هل حقاً غادرت هذه الحياة، ابنك حرص أن تكون حجارته المرو الأبيض، وأنا الحجارة السوداء، حاولت أن أقلدك باللعب، أفكر، ولكن كيف لصبي صغير في أولى سنواته الدراسية أن يلعب مثلك ويفوز، ابنك افتقدك كثيراً، وأنا أتذكرك عندما أقرأ أو أسمع أو أشاهد أناسا يلعبون تلك اللعبة البدائية، ولكن، ربما أحفادك أو أحفاد بعض أبنائك يأتون لذلك المتجر، الذي كان في زمن سابق دكاناً لبيع الخضراوات، وأصبح محلا لبيع وتأجير الألعاب الإلكترونية، هل أتحدث مع البائع الذي يلعب عبر شاشة تلفزيونية، لعباً متخيلة، لا مكان للخشب ولا للحجارة ولو كانت من المرو الأبيض في ذلك المكان، وبكل تأكيد، أنت كنت تستمتع وتشعر بلذة الانتصار على رجل يلعب معك، يأتي لدكانك الصغير، يشتري بعضاً من الفواكه والخضراوات، ويشاركك اللعب جلوساً على الأرض، وتردد حين يسألك أحد لماذا انهماكك باللعب «الفاضي يعمل قاضي» أنا أتذكر تلك الجملة، وأتمنى أعرف معناها، كيف يكون فاضياً أي بلا عمل، وبالوقت ذاته يعمل قاضياً، مقولة عرفت معناها فيما بعد، وأدركت، لو يطبق تلك المقولة وفق رؤيتك، لأصبح عدد القضاة بالآلاف أو بالملايين، كل واحد لديه ألعاب بهاتفه المحمول، أعرف أنك تقصد أن اللعب يكون في وقت الفراغ، حين لا يكون هنالك زبائن في المحل، ولا يستغرق اللعب كل الوقت.
صدقني حزنت كثيراً بخبر موتك، لم أستطع أن ألعب مع ابنك بصورة جيدة لعدم معرفتي بطريقة اللعب، أذكر أن ابنك الصغير أخذ ذلك اللوح الخشبي ومعه الحجارة الصغيرة، ربما احتفظ بها، أنا لم أقابله بعد ذلك، وها أنا ابتعد كثيراً عن ذلك المكان، ذلك المحل الذي تغير كثيراً، بتغير ما حوله، هاجس دفعني أفكر بالتغير الذي جعل اللعبة في ذلك المكان تتحول من الحجارة والخشب إلى الفضاء الافتراضي، أكيد لا تعي كثيرا من الكلمات التي أقولها الآن، ولكن تبقى جميعها لعبة يمارسها انسان «فاضي» ليصبح قاضياً.