سهام القحطاني
«على المطرقة أن تصنع الفلسفة»-نيتشه-
ظلت الخوارق من المسائل الفلسفية المسيطرة على العقل الإنساني منذ زمن الأساطير، وحتى زمن «نيتشيه»، فقد كان الإيمان بألوهية الإنسان في كمالها أو جزء منها من أسباب نشوء الأسطورة وذلك حاصل التقدير للقوة الخارقة التي تكمن داخل الإنسان.
لقد ارتبطت الخوارق بفكرة «الألوهية» ليست على مستوى الذات إنما على مستوى القدرة كفعل مرتبط بفكرة الألوهية في دلالتها؛ الخلود والقوة المطلقة ومقاومة الموت والإحياء المتجدد.
لذا ظلت القوة الخارقة من المسائل الفلسفية التي تسيطر على الفكر الفلسفي على مرّ العصور والنظرية المعرفية بشكل عام،و تعددت رمزيات القوة منذ زمن الأساطير مروراً بالإنسان الخارق وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي فهذه الرمزيات هي مؤشرات لرغبة الإنسان في التفوق على ذاته الضعيفة من خلال إيجاد بديل يحقق طموحه في قوة خالدة تخلق الإنسان الأعلى و تضمن له الاستدامة المقاومة للفناء.
وقد اختطف الأدب وبعدها السينما هذا المدى للقوة من الفلسفة وجسدته لتحوله إلى واقع افتراضي بصري يعيش داخله الإنسان ولو من خلال الصوة و يفجّر أسئلة وجودية تتعلق بإمكانية واقعية الخوارق وتحولها إلى أسلوب حياة و تحويل الإنسان من جسد فانٍ إلى آخر متجدد بالخلود.
هل القوة هي التي تُشكل قدراتنا أم قدراتنا هي التي تٌشكل القوة، وهذه المسألة تحدث عنها نيتشه في كتابه «إرادة القوة» عندما طرح مسألة دور المسلّمات المنطقية أهي قانونين نستكشف من خلالها الواقع أم هي وسائل و مقاييس «لنخلق بها نحن الأشياء و التصور: حقيقة الشيء «؟»-إرادة المعرفة-نيتشه-ت/علي مصباح-
ويفرق نيتشه بين «القوة» و «الطاقة» فالقوة ترتبط بمقدار ما يملكه الإنسان من معرفة عالية تمكنه من إنتاج طاقة، ولذا يرى ما يميز الإنسان الأعلى أو المتفوق هو استمراره في البحث عن القوة ليظل لديه القدرة على إنتاج طاقة تمييزه عن غيره،بل تصنع منه إنسان متفوق يتجاوز الإنسان في حيّزه الحيّ ،فالإنسان الأعلى عنده هو الإنسان الذي لا يموت فالقوة و الطاقة تمنحه حياة متجددة.
والقوة المتراكمة ليس الهدف منها البقاء بل «الرغبة في أن يصبح أقوى،الرغبة في التملك في السيادة في زيادة الحجم و امتلاك قوة أكبر»-إرادة المعرفة،ص20-
ولذا فاستمرار الصراع مفيد دائما فبسببه يتم الحصول على «تنظيم جديد للقوى، حسب مقدار قوة كل طرف من أطراف الصراع، فالصراع بين الأطراف غالبا ما يؤدي» إلى ظهور كميات أخرى من القوى».
وبذلك تُصبح القوة الخارقة مرتبطة بحجم الصراع المناقض لها، فالشر مُحفز دائما لتنامي القوة، وكلما عظمت قوة الشر؛ عظمت القوة المضادة له، «فالمهم أن يؤدي العنصران المتصارعان إلى ظهور كميات أخرى من القوة»-إرادة القوة».
كان الظهور الأول للرجل الخارق بعيدا عن دهاليز المسألة الثقافية عام 1938 من خلال الكومكس ليصبح «سوبرمان» أو الرجل الخارق أشهر بطل في العالم.
ولاشك أن هذا الظهور على الورق تحول إلى حلّم عند السينما الفن السابع الخالق الأول للعالم الافتراضي عام 1978م، وفي عام 1939م ظهرت شخصية باتمان الرجل الوطواط البطل الخارق وهي شخصية من ابتكار الرسام «بوب كين»،ثم ظهرت شخصية سبايدر مان عام 1962 من ابتكار الرسام «ستيف ديتكو» اليتم الذي لدغه عنكبوت فمنحته تلك اللدغة قوة خارقة.
ولا تنحصر شخصية البطل الخارق الذي يملك قوة لا يمكن التغلب عليها في هذه الشخصيات الثلاث،بل هناك نماج أخرى للبطل الخارق مثل «شخصية ثور» وهو من أشهر الشخصيات الأسطورية في التراث الإسكندنافي، و الرجل الأخضر.
ودخلت المرأة عالم القوة الخارقة من خلال العديد من الشخصيات النسائية ممن يمتلكن قوى خارقة من خلال مجلات الكومكس مثل «أميرة الأمازون ثم السينما ثم عالم الألعاب الإلكترونية في نسخ مختلفة.
وفي المقابل نجد أن القوة الخارقة ليست مقتصرة على «الخير» بل هي شاملة كذلك «الشر» المطلق أو المقابل، حيث يتجلى الذكاء الخارق الذي يهزم حينا البطل الخارق أو يُسقطه في فخ الهزيمة، حتى أصبح لبعض الشخصيات الشريرة ذات الذكاء الخارق أو القوة الخارقة مدى شعبي قد يتساوى مع البطل الخارق، وهنا نرى تحوّل في قيم الجمهور من «كره للشرّ» إلى «تقدير لذكاء الشر» كما نجد ذلك في «شخصية الجوكر-المهرج» الشخصية ذات الملامح الغريبة و التي كانت نتيجة سقوط هذه الشخصية في خزان للنفايات الكيميائية و التي حوّلته إلى شخصية غريبة الشكل و الأفعال، و الجوكر هو العدو الدائم لباتمان البطل الخارق الذي ظهر مع باتمان سينمائيا عام 1940م.
و تفنيدا للشر المطلق يظهر «الجوكر-المهرج» عام 2019م من خلال الوجه الإنساني الخفي وراء ألوان وجه المهرج ليلقي الضوء على التحوّل من الضعف إلى القوة القاتلة، وهذا المسار الدرامي جاء في سياق فلسفة الشر ومعايير تقييمها التي تُلّمح أن الأثر قد يُجيز إلغاء قيمة الأخلاق أو كما يقول نيتشه في هذا الإنسان «سيكون علينا أن ننسى بعض الأشياء إذا ما أردنا أن نكون عادلين تجاه مولد التراجيديا»-ت/علي مصباح.
القوة الخارقة دائما ما تتجاوز الإنسان في حدّه الحيّ،فهي خاصة بإنسان له مواصفات خاصة تصنع منه رمزية خالدة، أيقونة للاستدامة يتجلى خلالهما «الإنسان الأعلى» الإنسان الصاعقة النازلة من السحابة الداكنة»-هكذا تكلم زرادشت، ص40-
ولذا فأفلام البطل الخارق تقدمه بصفة تفوق الطبيعية العادية للإنسان،فهو إنسان آخر يتجاوز الإنسان الحيّ الفاني، فسوبرمان ولد في كوكب كريبتون، وباتمان استمدّ قوته الخارقة من «لبسه الذي صممه على هيئة خفّاش»،و سبايدرمان لدغه عنكبوت معدل جنيا فمنحته هذه اللدغة قوة خارقة.
فهناك ثمة مصدر للقوة الخارقة تحوّل الإنسان من حيّزه الحيّ الفاني إلى إنسان متفوق أعلوي غير قابل للفناء أو الهزيمة.
أو كما يقول نيتشه على لسان زرادشت» إنني أعلمكم الإنسان الأعلى، الإنسان شيء لابد من تجاوزه فما الذي فعلتم كي تتجاوزوه؟».
ولم تظل القوة كمسألة فلسفية حبيسة الأدب و السينما بل تحررت من العالم الافتراضي لتدخل عالم التطبيقات الحيّة من خلال منظومة الذكاء الاصطناعي لتتحقق أو على وشك التحقق نبوءة نيتشه في وجود إنسان أعلى خالد في هيئة «روبوت» يقع ما بين الإنسان الحيّ والحيوان.