د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ذكرت في أكثر من موضع شكي في قيمة الشعر وسيلة للبحث عن التاريخ الدقيق، وذلك في معرض الحديث عن تحديد المواضع في الشعر الجاهلي، وقلت فيما قلت إن الشعر يعتمد على المجاز والتخييل، فنجد مثلاً شاعراً يذكر اسماً في حين يختلف الشراح حول معنى هذا الاسم أهو علم لموضع أم علم لامرأة، وهذا ما يجعل الجزم بالدلالة الدقيقة للبيت أو القصيدة بما يطابقها في الواقع أمراً مشكوكاً فيه إضافة إلى أن أسماء المواضع تتشابه فقد يرد في شعر شاعر حديثاً عن موضع يظنه القراء في اليمن، فيجدون مثيلاً له في الشآم أو يذكر موضعاً في عالية نجد فيجدون مثيلاً له في أسفله ما يجعل الشراح والباحثين بعد ذلك يضطربون في تحديد الحادثة التاريخية المنسوبة إليه بناء على اختلاف الظروف المحيطة بكل موضع والتي تجعل المعلومات المذكورة في هذه الحادثة محل شك بناء على المعطيات التي تمنحها كل ظروف، ويجعل المعلومات التاريخية الواردة في الشعر أقرب إلى المعلومات العامة ليست ذات غناء تشبه إلى حد كبير المعلومة الواردة في بيت امرئ القيس عن ابن خذام على الاختلاف في نطق الاسم والتي لا تفيد إلا وجود شاعر يحمل هذا الاسم قد سبق امرأ القيس في الوقوف على الأطلال دون معرفة شيء عن زمانه أو مكانه أو ما قاله أو أي شيء عنه يفيد شيئاً عن الشعر في تلك الحقبة.
ومع صحة هذا الإشكال، فإن الحكم على دلالة الشعر أو الفن بوجه عام على التاريخ لا يمكن أن يكون بهذه السهولة، وذلك أننا نجد نماذج من الفن تمنح حالة من المعرفة -إن صح التعبير- تجعل القارئ يكون رأياً جيداً عن الحقبة التي تحيل إليها الآثار الفنية سواء كانت هذه الآثار لوحات فنية أو منحوتات أو آثاراً قولية على الطريقة التي يقوم بها أصحاب الأركولوجي وهم ينقبون في آثار الغابرين ويبحثون فيما يمكن أن يجدوه من بقاياهم يكونون منها رواية للتاريخ بناء على ما يعرفون في حاضرهم.
وعلى الرغم أن هذه الآثار صامتة في الأساس، فإن دلالتها المنطوقة هي نوع من القراءة والتفسير الذي تعتورها ما يعتور أنواع القراءة من عدم الدقة ومن تأثير حاضر القارئ على ما يقرأ، بمعنى أن الصورة التي تظهر عليها هي صورة معاصرة ليست بالضرورة عاكسة للصورة الحقيقة كما قال فرويد وهو يتحدث عن كتابة التاريخ إذ يرى أن الأمم حين تبني تاريخها القديم تعود إلى ما تبقى من الزمن الماضي، فتبني تاريخاً جديداً يكون وفق آراء ورغبات الحاضر أكثر منه صورة صادقة للماضي الذي زالت حقيقته بسبب النسيان، والتأويلات الخاطئة التي مثلت المادة الكبيرة في تأسيس صورة الماضي.
وهذا ما يعزز بدوره الإشكال السالف، إلا أن دلالتها على التاريخ بالصورة التي ذكرتها لا يمكن إغفالها خاصة حين تكون هذه الآثار ناطقة بمعنى أنها آثار قولية تمنح صورة حية عن عادة اجتماعية أو سلوك فئة أو أداة كانت تستخدم في زمن من الأزمان، وفي هذا السبيل أذكر أبيات عنترة بن شداد الشهيرة في المعلقة يتحدث فيها عن عادته في الشرب، فيقول:
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر بالشمال مفدم
والذي يعنيني هنا هو آلة الشرب التي يتحدث عنها، فهي أولا بـ«المشوف» «المعلم»، والمشوف هو المصنوع من الزجاج بحيث تستطيع أن ترى ما بداخله، فهو مشوف، بينما المعلم أي ذا العلامة، بمعنى أنه مخطط، فهو يشرب بكأس من زجاج قد خطط بناؤه.
ثم يؤكد المعنى بالبيت الثاني، ويقول: إن هذا المشوف المعلم هو زجاجة ذات لون أصفر، فيها أسرة بمعنى فيها خطوط كذلك. هذه الزجاجة وهي الكأس الذي يشرب به وقد قرن بأزهر، والأزهر هو الأبيض، وقد قدم بالشمال والذي يقرن بالكأس ويقدم بالشمال عادة هو الأبريق، ما يعني أن هذه العادة الاجتماعية لدينا والتي يمسك فيها الإبريق بالشمال لصب ما فيه والمنتشرة بين الناس الآن هي عادة قديمة تعود في جذورها إلى ما قبل الإسلام.
والأمر الأكثر إثارة للفضول هو أننا حين أصبحنا نقدم القهوة والشاي صرنا نقدمها بالطريقة عينها التي كانت تقدم فيها المدامة -كما يقول عنترة- فنقرن الزجاجة الصفراء (البيالات) بالأزهر وهو الأبريق، بيد أنه ليس بالضرورة أن يكون أزهر، فقد يكون أصفر أو أحمر، ونقدمه أيضاً بالشمال، ويبين أصل هذه العادة الموروثة من عصر ما قبل الإسلام إذا قارنا عادتنا في تقديم القهوة والشاي بعادة أهل البلاد العربية الأخرى الذين يقدمون الفناجين والأكواب منفردة دون أن تقرن بإبريقها، وهو ما يعني أن هناك طرائق مختلفة في تقديم الشاي والقهوة وقد اختار الناس هذه لأنها توافق ما اعتادوا عليه.
هناك شواهد كثيرة في المعلقات لبعض السلوكيات المنتشرة الآن لكني لا أريد أن أطيل بالحديث عنها.
قلت إنه يمنح حالة من المعرفة تجعل القارئ يكون رأياً جيداً عن تلك الحقبة، هذه الحالة تتمثل ببعث الحقبة المنتمي إليها الفن في حياة الناس، فتكون (الحقبة) موجودة في خيال الناس، وأذهانهم بوصفها ذات وجود فيزيائي في أذهانهم، يحيلون إليها في أحاديثهم، ويستندون عليها في ذاكرتهم وكأنها شيء محسوس يعرفونه حتى وإن كانت هذه المعرفة التي يدعونها مستمدة من واقعهم ومن تجاربهم المعاشة بناء على أن لا خبرة لهم في الحقبة الماضية التي يحيلون إليها، ولا خبر عنها دقيق غير هذه الآثار الفنية. هذه الحالة هي التي تعطي الفن قيمته الكبيرة ومنزلته الخاصة في حفظ التاريخ.