د.سهام صالح العبودي
ربما لا تُعرف - على وجه اليقين - اللحظة التي قرَّر فيها إنسان ما تدوين أفكاره، تلك اللحظة التي تنتقل فيها هذه الأفكار من عقله، لتكون في مواجهة هذا العقل، وفي مواجهة العالم أيضًا.
رحلة الانتقال هاته التي تستغرق سنوات من البحث والتأمُّل والتفكير والتحقيق والمراجعة يقطعها عقلٌ قارئ في ساعات؛ فهل يدرك القارئ هذه الغنيمة الباردة التي يمنحها إيَّاه عقلٌ آخر؟ عقلٌ بعيد في الزمن، وقد يكون غريب اللغة والمكان؟ لا ريب إذن أنَّ المرء المشغول بالكتب، وعالم القراءة لا يمكن أن يغدو غير مشغول بها؛ فتلك اللذة التي تصيب العقل في لحظات الالتقاء بالأفكار لا تلبث أن تصبح عادةً توجِّه صاحبها نحو الانتفاع الممكن من غنائم العقل البشري منذ لحظات التدوين المبكِّرة. الالتقاء بكتب على رفوف مكتبة يعني الالتقاء بعشرات بل مئات السنين محفوظة في شكل تدوين، سنوات منحوتة من أعمار عقول مفكِّرة اقتسمت خلاصة حياتها، وعصارة تجاربها مع الإنسانيَّة كلِّها.
الزمن نفسه يغدو عنصرًا محايدًا أمام سلطة المعرفة التي تعبِّئ المجلَّدات، وتؤثِّث الرفوف؛ ففوق تلك الرفوف يصطفُّ الأحياء مع الأموات، يقف الذين عاشوا قبل الميلاد والذين شهدوا ألفيَّته الثانية متجاورين، ويتجاور المشاهير والمجاهيل، والمجرِّبون والأغمار. هنالك تسطع فكرة في غير زمنها، وتَستردُّ نفسَها مع كلِّ روح قارئة.
يتحقَّق في الكتب شكلٌ من أشكال الأبديَّة؛ فما استبقى إنسان شيئًا من أثره أكثر نفعًا من معرفة، ولكم يبدو عجيبًا ومعجزًا أنَّ أفكار كتَّاب موتى تجعلنا - نحن الأحياء - أكثر حياة، وأقدر على مواجهة الحياة، ولم تغب فكرة الأُنس التي يحقِّقها كتاب أو كاتب؛ القراءة حوارٌ خارج الزمن، ومغيِّر للزمن في آن، ينقل البغداديُّ في (تقييد العلم) حوارًا عن هذا الحوار: «قيل لرجلٍ: من يُؤنِسُكَ؟ فضربَ بيدِه إلى كتبهِ، وقال: هذه. فقيل: مِن الناسِ؟ فقال: الذين فيها».
ولا عجب – إذن – حين يربط محبو الكتب، وعشَّاق المكتبات بين هذا العالم المحسوس من الورق والرفوف وعوالم ما وراء المحسوس، ويرون أنَّ سحرها يخوِّلها انتماءً إلى عالم أسمى؛ عالم يبقى بعد أن تزول كلُّ القشور والمظاهر. يروي ابن الجوزي خبرًا عن الحافظ أبي العلاء الهمذاني فيقول: «بلغني أنَّه رُئِي في المنام في مدينة جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتبٌ لا تُحدُّ، وهو مُشْتغِل بمطالعتها، فقيل له: ما هذه الكتب؟ قال: سألتُ الله تعالى أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني».
يتقاطع هذا المرويُّ مع تصوُّر (بورخيس) عن عالم الكتب، فينقل عنه (مانغويل) قوله: «إنَّه يتخيَّل الفردوس (في شكل مكتبة)»، ولربما كان ما تحقِّقه المكتبة من كونها عالمًا من الرحابة والسلام والعزلة المطهِّرة هو ما يجعلها قريبة من الفردوس: عالم الطمأنينة الخالصة المرجوَّة.
تبدو الكتب مثل سلاح يقاوم به الإنسان قيوده، ويتحرَّر منها حين يسمح لعقله بالتجدُّد، ويأذن بنفاذ الأفكار إليه. وإذا كانت الكتابة عملية (قيد للأفكار) فإنَّها تُنتج - عبر قراءتها - حالة مستمرَّة من التوسُّع الداخلي لقارئيها، في تلك الأكوان الداخليَّة الشاسعة التي تقيم فيها الأفكار الرصينة تغدو صغائر الأمور مجرَّد شوائب طارئة طيَّارة لا تستحقُّ الالتفات.