ولد محمد إمام سنة 1862 على وجه التقريب من عبدين رقيقين جُلبا من السودان، وبيعا لأحد الأثرياء بالقاهرة مما مكنهما من الارتباط برباط الزوجية فأنجبا محمداً وحده، ونشأ في كنفهما، وورث عنهما السواد والدمامة والبؤس، ومع ذلك فقد اكتسب قوة في الجسم وبلاغة في المنطق وخفة في الروح، وأصبح شاعراً مطبوعاً، وخطيباً مفوهاً، وسميراً لجلسائه بنوادره العذبة.
تلقى دراسته الواسعة في ميدان الحياة بين صفحات الكتب والمنتديات الأدبية التي تعقد في الأندية والمقاهي الشعبية مع أقرانه الكتاب والشعراء.
في أسلوبه عذوبة ظاهرة تنبئ عنها رشاقة ألفاظه؛ ولاسيما في شعره الغزلي، كما في قوله:
أرى لوعة بين الجوانح لا تهـدا
أهذا الذي سماه أهل الهوى وجدا
وما ذلك الواهي الخفوق بجانبي
أهذا هو القلب الذي يحفظ العهدا
وقوله:
أقام الهوى عشرين حولا بمهجتي
وسار فمن أوحى له برجوعِ
كأنَّ الهـوى ما أكرمته ربوعه
وصادف إكراما له بربوعي
وهو وإن نظم في موضوعات كثيرة إلا أن النغمة السائدة في شعره هي الأنين والشكوى من الزمن، حتى إذا ما أنشده كان ندباً ورثاء. لقب نفسه (إمام البؤساء ورئيس حزبهم) وعبر عن هذا البؤس بأسلوب ساخر ونكات لاذعة، وكان تعييره بالسواد أكثر ما يعانيه.
قال شاكياً:
نسبوني إلى العبيد مجـازا
بعد فضلي واستشهدوا بسوادي
ضاع قدري فقمت أندب حظي
فسوادي عليه ثوب حداد
وهو لا ينسى سواده في كل مناسبة وفي كل موقف، حتى لو كان في موقف غزل. ها هو يقول:
عذبي القلب كما شئت ولا
تكثـري اللوم فمثلي لا يلامْ
أسدلي الليل على بدر الدجى
فحديث الشوق يحلو في الظلام
همتُ بالوصـل فقالت: عجبا
أيها الشاعر ما هـذا الهيـام
لم ينلْ منا الرضــا حرٌّ وما
رام منَّا سـيد هـذا المـرام
أنت عبـدٌ والهـوى أخبرني
أن وصل العبد في الحب حرام
قلت: يا هذي أنا عبد الهوى
والهــوى يحكم ما بين الأنام
وإذا مـا كنت عبدا أسودا
فاعلمي أني فتـى حـرُّ الكلام
ويعلل لمحبوبته سواد لونه تعليلاً طريفاً فيقول:
وما كان لوني قبل حبكِ أسودا
ولكنْ لهيب الشوق أحرق جثماني
وحين يئس من تقبل البيض له تغزل في غادة سوداء مثله، ولم ينس تعليلاته الساخرة، فقال:
وسوداء كالليل البهيم عشقتها
لأجمع بين الحظِّ واللون في عيني
إذا ضمنا ليل تبسـم ثغـرها
فلولا سناه بـتُّ في جنح ليلين
مما يروي عن نفسه من طرائفه أنه شد عنقه يوماً بربطة سوداء فلما رآه أحد أصدقائه هكذا حسب أنه فكّ أزرار قميصه فطلب منه أن يغلقها!..
ومما يُروى عنه أنه شد عنقه يوماً ما بربطة حمراء فلما سئل عن السبب قال: ليعرف الناس أين ينتهي جسمي وأين يبتدئ رأسي؟!
وجلس يكتب ذات مرة فسقطت نقطة حبر على الورقة، فقال له جليسه: جفِّف عرقك!
وأراد يوماً أن يعود إلى بيته وليس في جيبه نقود فركب عربة، حتى إذا وصل إلى داره وولجها أطل على السائق من النافذة وقال له: «يا عربجي. سيدي مش عاوز يركب»!..
ولكثرة تندره بسواده بادله أصحابه التهكم والاستخفاف، وكان حافظ إبراهيم أقساهم سخرية، وفكاهته أسرع انتشاراً، وقد وقعت الجفوة بين الشاعرين لهذا السبب مرات عديدة إلا أنها لا تدوم طويلاً، لما بينهما من صفاء نفس ونقاء ضمير.
واشتهر إمام بالشاعرية قبل صديقه حافظ إبراهيم، وكان يقوِّم ما يعرضه عليه حافظ. ودارت الأيام فإذ بشاعر النيل يحلق في آفاق الشعر، وإمام لا يجد من يروي قصائده، ويزيد الطين بلة أن يتنكر التلميذ لأستاذه، بل يتندر على قصائده كما يتندر على هيئته وطعامه، وإمام لا يرد على ولي نعمته الذي ينفق عليه.
ومع هذا الغزل الرقيق فقد عاش شاعرنا حياته عزباً بسبب ارتفاع تكاليف الزواج، والأدب - كما هو في كل زمان - لا يسد رمقاً. وأخذ ينظر إلى الزواج باعتباره حدثاً جللاً لما يعقبه من تبعات ومصاعب، فقال محذراً ومهولاً:
أيها العاقل المهذب مهـلا
هل رأيت الزواج في الدهر سهلا
كل عام يزاحم الطـفلَ طفلٌ
ليتني عشت طول عمري طفلاً
ذاك يحبو، وذاك يمشي، وهذي
فـوق صـدر، وتلك تنشد بعلا
ضاق صدري من الزواج فمن لي
بحياة الخصي قـولاً وفعـلاً
كان هـذا الشقي جسماً فلما
أنهكته الهموم أصبح ظـلاً
ولم يبعد عن سخريته وهو يعلل سبب انصرافه عن الزواج، إذ يقول:
يا خليلي وأنت خيـر خليل
لا تلم راهبا بغير دليل
أنا ليل وكل حسناء شمس
فاجتماعي بها من المستحيل
كان يحزُّ في كبده أن يجوع وتأكل الماشية، ويعرى وتكتسى الأضرحة، ويلقب بالعبد وهو الأديب الحر. ولولا ما طبع عليه من فكاهة لاحترق بما يعتمل في صدره:
سـئمت من الحياة بلا حيـاة
وضقت من الرشاد بلا رشاد
وكيف يهيم بالدنيا أديب
تسربل بالسواد على السواد
إذا أكل الطـعامَ فمن تـراب
وإن شـرب المياهَ فمـن مداد
كأن الدهر يغضبه صلاحي
فأفقرنـي ليرضيه فسادي
دهمته العلة عام 1911 بعد خمسين عاماً من عمره الجديب، وأحس أنه قريب من الموت فلم يأسف على شيء غير يراعه الذي سجل بمداده حياته البائسة، فودعه بكل حرقة حين قال:
يراعي، لقد حان الفراق وربما
أراك على العهد المقـدس باقيا
لبست عليك الليل حـزنا وليتني
لبست على نفسـي الدجنة ثانيا
مضت بيميني الحادثات جهـالة
فلما رأت صبري مضت بشماليا
وكيف يطيب العيش والدهر مدبر
وفي القلب ما يغري الحسام اليمانيا
** **
- سعد عبدالله الغريبي